قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار بحديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- المذكور إلى ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنه كان يَحْمِل مع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال:"مَن هذا؟ "، فقال: أنا أبو هريرة، فقال:"ابغني أحجارًا أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة"، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي، حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فَرَغَ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال:"هما من طعام الجنّ، وإنه أتاني وَفْدُ جنّ نصيبين، ونعم الجنّ، فسألوني الزاد، فدعوت اللَّه لهم أن لا يَمُرُّوا بعظم ولا بروثة، إلا وجدوا عليها طعامًا". انتهى.
قال في "الفتح": وحديث أبي هريرة في هذا الباب، وإن كان ظاهرًا في اجتماع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- بالجنّ، وحديثِهِ معهم، لكنه ليس فيه أنه قرأ عليهم، ولا أنهم الجن الذين استمعوا القرآن؛ لأن في حديث أبي هريرة أنه كان مع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- ليلتئذ، وأبو هريرة إنما قَدِم على النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- في السنة السابعة المدينة، وقصةُ استماع الجن للقرآن كان بمكة قبل الهجرة، وحديث ابن عباس صريح في ذلك.
فيُجْمَع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدد وفود الجنّ على النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، فأما ما وقع في مكة فكان لاستماع القرآن، والرجوع إلى قومهم منذرين، كما وقع في القرآن، وأما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بَيِّنٌ في الحديثين المذكورين.
ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضًا بمكة، وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-، وأما حديث أبي هريرة فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدينة، ويَحْتَمِل تعدد القدوم بمكة مرتين وبالمدينة أيضًا.
قال البيهقيّ: حديث ابن عباس حَكَى ما وقع في أول الأمر عندما عَلِم الجنّ بحاله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي ذلك الوقت لم يَقْرأ عليهم، ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجنّ مرة أخرى، فذهب معه، وقرأ عليهم القرآن، كما حكاه عبد اللَّه بن مسعود. انتهى.
وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمد، والحاكم، من طريق زِرّ بن حُبيش، عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، قال: هَبَطُوا على النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، وهو يقرأ القرآن