عذابًا، ولأن من كان في الدنيا شريرًا ربّما يوفّق للتوبة، وأما الآخرة فليست إلا دار الجزاء، واللَّه تعالى أعلم.
قال القرطبي -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إنما صَوَّر أوائلهم الصُّوَرَ ليأتنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون اللَّه عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم خَلَف مِن بعدهم خَلْفٌ جَهِلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها، فعبدوها، فحذَّر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مثل ذلك، وشدّد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسدّ الذرائع المؤدية إلى ذلك، فقال:"اشتدّ غضب اللَّه على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتّخذوا القبور مساجد"، أي أنهاكم عن ذلك، وقال:"لعن اللَّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد"، وقال:"اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد".
ولهذا بالغ المسلمون في سدّ الذريعة في قبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأَعْلَوُا حيطان تربته، وسدُّوا المداخل إليها، وجعلوها مُحدقةً بقبره -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم خافوا أن يُتّخذ موضع قبره قبلة؛ إذ كان مستقبل المصلين، فتتصوّر الصلاة إليه بصورة العبادة، فبَنَوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرّفوهما حتى التقيا على زاويةِ مثلَّث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكّن أحدٌ من استقبال قبره، ولهذا الذي ذكرناه كلّه قالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: "ولولا ذلك لأُبرز قبره". انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-. وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [٣/ ١١٨٦ و ١١٨٧ و ١١٨٨](٥٢٨)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(١٣٣٠ و ١٣٤١ و ١٣٩٠)، و"المغازي"(٣٤٥٣ و ٤٤٤١ و ٤٤٤٣)، و (النسائيّ) في "المساجد"(٢/ ٤٠)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(١٥٨٨)، و (أحمد) في "مسنده"(١/ ٢١٨ و ٦/ ٣٤ و ١٢١ و ٢٥٥)، و (الدارميّ) في "سننه"(١/ ٣٢٦)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(٣١٨١)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(١١٨٩ و ١٠١٩ و ١١٩١)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(٢/ ١٣١ - ١٣٢)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(٤/ ٨٠)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(٥٠٨)، واللَّه تعالى أعلم.