وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة السابعة، وفيه نظر؛ لذكر العباس، وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع، وجزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان، وفيه نظر أيضًا؛ لما ورد في حديث الإفك في "الصحيحين" عن عائشة، قالت:"فثار الحيان، الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على المنبر، فنزل، فخفَّضهم، حتى سكتوا"، فإن حُمِل على التجوز في ذكر المنبر، وإلا فهو أصحّ مما مضى.
وحَكَى بعض أهل السير أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يخطب على منبر من طين قبل أن يُتَّخذ المنبر من خشب، ويعكُر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب.
ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ستّ درجات من أسفله، وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: بعث معاوية إلى مروان، وهو عامله على المدينة أن يَحْمِل إليه المنبر، فأمر به، فقُلِعَ، فأظلمت المدينة، فخرج مروان، فخطب، وقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نَجّارًا، وكان ثلاث درجات، فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم، ورواه من وجه آخر، قال:"فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم، وقال: فزاد فيه ست درجات، وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس".
قال ابن النجّار، وغيره: استَمَرّ على ذلك إلا ما أصْلِحَ منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، فاحتَرَق، ثم جَدَّد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرًا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرًا، فأزيل منبر المظفَّر، فلم يزل إلى هذا العصر، فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين وثمانمائة منبرًا جديدًا، وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرًا جديدًا إلى مكة أيضًا، شكر اللَّه له صالح عمله آمين، ذكر هذا كلّه في "الفتح"(١)، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.