الطعام عذرًا يُبيح ترك الجماعة، فلا دليل فيه حينئذ على إسقاط الوجوب مطلقًا.
٥ - (ومنها): أن فيه تفضيلَ الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت.
٦ - (ومنها): أنه استدَلَّ بعض الشافعية والحنابلة بقوله: "فابدؤوا" على تخصيص ذلك بمن لم يَشْرَع في الأكل، وأما مَن شرع، ثم أقيمت الصلاة، فلا يتمادي، بل يقوم إلى الصلاة.
قال النووي -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وصنيع ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- يبطل ذلك، وهو الصواب.
وتُعُقّب بأن صنيع ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- اختيار له، وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ما ذكروه؛ لأنه يكون قد أخذ من الطعام ما دَفَعَ شغل البال به، ويؤيِّد ذلك حديث عمرو بن أمية -رضي اللَّه عنه-، قال: رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يأكل ذراعًا يَحْتَزُّ منها، فدُعي إلى الصلاة، فقام، فطرح السكين، فصلّي، ولم يتوضأ.
لكن قال الزين ابن الْمُنَيِّر -رَحِمَهُ اللَّهُ-: لعله -صلى اللَّه عليه وسلم- أخذ في خاصة نفسه بالعزيمة، فقدَّم الصلاة على الطعام، وأمر غيره بالرخصة؛ لأنه لا يَقْوَى على مدافعة الشهوة قوته، "وأيكم يملك أربه". انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي حمل حديث عمرو بن أمية -رضي اللَّه عنه- على الإمام، وهو رأي الإمام البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وهو الظاهر؛ لأنه يُنتظر ممن في المسجد، ويتضرّرون بتأخره بخلاف المأموم، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
ورَوَى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة بإسناد حسن، عن أبي هريرة، وابن عباس -رضي اللَّه عنهم-: "أنهما كانا يأكلان طعامًا، وفي التنور شواء، فأراد المؤذِّن أن يقيم، فقال له ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: لا تَعْجَل؛ لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء"، وفي رواية ابن أبي شيبة:"لئلا يَعْرِض لنا في صلاتنا"، وله عن الحسن بن عليّ -رضي اللَّه عنهما-، قال:"العَشَاء قبل الصلاة يُذهب النفس اللوامة".
وفي هذا كله إشارةٌ إلى أن العلة في ذلك تشوُّف النفس إلى الطعام، فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجودًا وعدمًا، ولا يتقيد بكل، ولا بعض، ويُستثنى من ذلك الصائم، فلا تُكرَه صلاته بحضرة الطعام؛ إذ الممتنع بالشرع لا يَشغَل العاقل نفسه به، لكن إذا غَلَب استُحِبّ له التحول من ذلك المكان،