فهذه الأحاديث كلّها تدلّ على أنه إذا أقيمت الصلاة، وحضر العَشاءُ، فإنه يبدأ بالعشاء، سواء كان قد أكل منه شيئًا، أو لا، وأنه لا يقوم حتى يقضي حاجته من عَشائه، ويفرغ منه.
وممن يروى عنه تقديم العشاء على الصلاة: أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وابن عبّاس، وأنس، وغيرهم.
ورَوى معمر، عن ثابت، عن أنس قال: إني لمع أُبيّ بن كعب، وأبي طلحة، وغيرهما من أصحاب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على طعام إذ نُودي بالصلاة، فذهبت أقوم، فأقعدوني، وعابوا عليّ حين أردت أن أقوم، وأَدَع الطعام، خرّجه عبد اللَّه بن أحمد في "مسائله".
وإلى هذا القول ذهب الثوريّ، وأحمد في المشهور عنه، وإسحاق، وابن المنذر، وقال أحمد: لا يقوم حتى يفرغ من جميع عشائه، وإن خاف أن تفوته الصلاة ما دام في الوقت، قال: لأنه إذا تناول منه شيئًا، ثم تركه كان في نفسه شغل من تركه الطعام إذا لم يَنَلْ منه حاجته.
وحاصل الأمر أنه إذا حضر الطعام كان عُذرًا في ترك صلاة الجماعة، فيقدّم تناول الطعام، وإن خشي فوات الجماعة، ولكن لا بدّ أن يكون له ميلٌ إلى الطعام، ولو كان ميلًا يسيرًا، صرّح بذلك أصحابنا وغيرهم، وعلى ذلك دلّ تعليل ابن عبّاس، والحسن، وغيرهما، وكذلك ما ذكره البخاريّ عن أبي الدرداء (١).
فأما إذا لم يكن له ميلٌ بالكلّيّة إلى الطعام، فلا معنى لتقديم الأكل على الصلاة.
وقالت طائفةٌ أخرى: يبدأ بالصلاة قبل الأكل، إلَّا أن تكون نفسه شديدة التوقان إلى الطعام، وهذا مذهب الشافعيّ، وقول ابن حبيب المالكيّ، واستدلّ له ابن حبّان بالحديث الذي فيه التقييد بالصائم، والحق به كلّ من كان شديد التوقان إلى الطعام في الصلاة يَمنع من كمال الخشوع بخلاف اليسير.
(١) هو قوله في "صحيحه": "وقال أبو الدرداء: من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يُقبل على صلاته، وقلبُهُ فارغ". انتهى.