قال النوويّ: هذا الاستدراك مردودٌ؛ لأن قتادة، وإن كان مُدَلِّسًا، فقد قدمنا في مواضع من هذا الشرح أن ما رواه البخاريّ ومسلم عن المدلسين، وعنعنوه، فهو محمولٌ على أنه ثبت من طريق آخر سماع ذلك المدلِّس هذا الحديثَ ممن عنعنه عنه، وأكثر هذا، أو كثير منه يَذكُر مسلم وغيره سماعه من طريق آخر، متصلًا به، وقد اتفقوا على أن المدلِّس لا يُحتَجُّ بعنعنته، كما سبق بيانه في الفصول المذكورة في مقدمة هذا الشرح، ولا شك عندنا في أن مسلمًا -رَحِمَهُ اللَّهُ- يَعْلَم هذه القاعدة، ويعلم تدليس قتادة، فلولا ثبوت سماعه عنده لم يَحتَجَّ به، ومع هذا كله فتدليسه لا يلزم منه أن يَذكُر معدانًا، من غير أن يكون له ذكر، والذي يُخاف من المدلِّس أن يَحذِف بعض الرواة، أما زيادة من لم يكن فهذا لا يفعله المدلِّس، وإنما هذا فعل الكاذب المجاهر بكذبه، وإنما ذِكْرُ معدان زيادة ثقة، فيجب قبولها.
والعجب من الدارقطني: في كونه جعل التدليس موجِبًا لاختراع ذكر رجل لا ذكر له، ونسبه إلى مثل قتادة الذي محلُّهُ من العدالة والحفظ والعلم بالغاية العالية، وباللَّه التوفيق. انتهى كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما ردّ به النوويّ على الدارقطنيّ أمران:
أحدهما: أن ما كان في "الصحيحين" معنعنًا عن طريق المدلّسين محمول على السماع.
والثاني: أن هذا ليس من نوع التدليس؛ لأن التدليس إنما يُخاف فيه من الإسقاط، وهذا زيادة، لا إسقاط، بل هو من زيادة الثقة، فيجب قبولها، هذا ملخّص ردّه -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
وعندي أن قتادة وإن كان معروفًا بالتدليس، فهذا ليس مما دلّسه قطعًا؛ لأنه رواه شعبة عنه كما في الرواية التالية، وقد ثبت وعُرف أن شعبة لا يروي عن قتادة إلا ما صرّح فيه بالسماع، نُقل عنه أنه قال: كنت أتفقّد فم قتادة، فإذا قال:"حدّثنا"، و"سمعتُ" حفظته، وإذا قال: حدّث فلان تركته، وقال أيضًا: كَفَيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة.