للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

اصفرّت، ومع احتمال المخالفة والموافقة لا يكون اضطرابًا، بل الواجب حمل الرواية المحتملة على الروايات المصرّحة، وجعلها على نسق واحد، لا اختلاف بينها، ولا تضادّ، وكيف نجيء إلى الرواية التي هي صريحة في المقصود، لا تَحْتَمِل التأويل، فنردّها بورود رواية أخرى تحتمل أن تخالفها احتمالًا مرجوحًا؟ بل لو كان احتمال المخالفة راجحًا لكان الواجب الحمل على المرجوح؛ ليوافق بقية الروايات، فكيف واحتمال المخالفة هو المرجوح، أو الاحتمالان مستويان إن تنزلنا؟ والواقف على كلام الطحاويّ في هذا الموضع يفهم منه التعَصُّب ببادئ الرأي؛ لأنه ذَكَر أولًا أن رواية الزهريّ عن أنمس محتملة لأن تكون الشمس قد اصفرّت، ثم إنه نزّل هذا الاحتمال منزلة المجزوم به، وقال: فقد اضطرب حديث أنس، ثم جزم بأن معنى ما روي عن الزهري بخلاف ما رواه غيره، مع قوله أولًا: إنه يحتمل المخالفة فقط.

ثم ذكر الطحاويّ حديث أبي الأبيض عن أنس، قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي صلاة العصر، والشمس بيضاء محلِّقة"، وقال: ذلك دليل على أنه قد كان يؤخرها، ثم ذكر أنه رُوي عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنه كان يصليها، والشمس مرتفعة بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب فرسخين، أو ثلاثة"، فذكر أنه دليل على التأخير أيضًا، وهذا من أعجب العجب، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ وليّ الدين العراقيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله ولي الدين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: تحقيق نفيسٌ جدًّا في الردّ على من يتعصب لمذهب الحنفية في قولهم باستحباب تأخير العصر، مثل الطحاويّ، ومن تبعه كالعينيّ، وصاحب العرف الشذيّ، من المنهمكين في التقليد.

والواجب على المسلم أن يكون ناصرًا للحقّ، ومتبعًا للدليل، يدور حيثما دار، ولا يلتفت إلى من خالفه، أيًا كان قدره ومنزلته من العلم، ولا يمنعه من ذلك تقليده لإمام من الأئمة المجتهدين، فإنهم يصيبون ويخطئون، ولكنهم مأجورون على خطئهم أجرًا واحدًا، كما أنهم يؤجرون على إصابتهم أجرين،


(١) "طرح التثريب" ٢/ ١٦٥ - ١٦٧.