وقد سبق في حديث أُبَيّ بْن كعب -رضي اللَّه عنه- قول ذلك الرجل: إني أريد أن يكتب لِي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فَقَالَ رَسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ جمع اللَّه لَكَ ذَلِكَ كله"، وفي رِوَايَة:"إن لَكَ مَا احتسبت".
وهذا يدلّ عَلَى أَنَّهُ يثاب عَلَى المشي فِي رجوعه من المسجد إلى منزله.
وأخرج أحمد في "مسنده"، وابن حبّان في "صحيحه"، عَن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو -رضي اللَّه عنهما-، عَن النَّبِيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ:"من راح إلى المسجد جماعةً فخطوتاه: خطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب حسنة، ذاهبًا وراجعًا".
وهذا المطلق قَدْ ورد مقيَّدًا بقيدين:
أحدهما: أن يخرج من بيته عَلَى طهرٍ قَدْ أحسنه وأكمله.
والثاني: أن لا يخرج إلَّا إلى الصلاة فِي المسجد، فلو خرج لحاجة لَهُ وكان المسجد فِي طريقه فدخل المسجد فصلى ولم يكن خروجه لذلك لَمْ يحصل لَهُ هَذَا الأجر الخاصّ.
وكذلك لَوْ خرج من بيته غير متطهر، لكنه يكتب لَهُ بذلك أجر، غير أن هَذَا الأجر الخاص -وهو رفع الدرجات وتكفير السيئات- لا يحصل بذلك (١).
٤ - (ومنها): ما قيل: أن فيه استحباب السكنى بقرب المسجد، إلا لمن حَصَلَت به منفعة أخرى، أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي، ما لم يَحْمِل على نفسه، ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي عَلِمُوه منه، فما أنكر عليهم النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك، بل رَجَّح درء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة، وأعلمهم بأن لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد، أو يزيد عليه.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال في "الفتح"، والذي يظهر لي أن الحديث لا يدلّ على فضل القرب من المسجد، بل إنما يدلّ على عكسه، فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يقرّهم على الانتقال، بل أنكر عليهم ذلك، وبيّن لهم أن البعد فيه الأجر الكثير، فالحقّ أن البعد هو الأفضل، كما يدلّ عليه ظاهر الحديث.