للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال القاضي البيضاوي رحمه الله تعالى: المراد بالحبّ هنا الحب العقلي، الذي هو إيثار ما يقتضي العقلُ السليمُ رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يَعاف الدواء بطبعه، فيَنفِر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله، فيَهْوَى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر، ولا ينهى إلا بما فيه صلاحٌ عاجل، أو خلاصٌ آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تَمَرَّن على الائتمار بأمره، بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذ بذلك التذاذًا عقليًا؛ إذ الالتذاذ العقلي: إدراك ما هو كمال، وخير من حيث هو كذلك، وعَبَّر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة؛ لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة.

قال: وإنما جَعَلَ هذه الأمور الثلاثة عنوانًا لكمال الإيمان؛ لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح، ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقّن أن جملة ما وَعَد، وأوعد حقّ يقينًا، ويُخَيَّل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار. انتهى ملخصًا.

وشاهد الحديث من القرآن، قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، ثم هَدَّد على ذلك، وتوعد بقوله: {فَتَرَبَّصُوا} الآية [التوبة: ٢٤]. ذكره في "الفتح" ١/ ٨٧.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ على جواز إضافة المحبّة لله تعالى، وإطلاقها عليه، ولا خلاف في أن إطلاق ذلك عليه صحيحٌ، مُحِبًّا، ومحبوبًا، كما قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الآية [المائدة: ٥٤]، وهو في السنّة كثير، ولا يختلف النظّار من أهل السنّة، وغيرهم أنها مؤوّلة في حقّ الله تعالى؛ لأن المحبّة المتعارفة في حقّنا، إنما هي ميلٌ لما فيه غَرَض يستكمل به الإنسان ما نقصه، وسكون لما تلتذّ به النفس، وتكمل بحصوله، والله تعالى منزّه عن ذلك.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ من أنه لا يختلف النظّار من أهل السنة … إلخ أراد به المتكلّمين، فليس هذا مذهب أهل السنة