فمحمول على أن ذلك كان غالب أحواله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتأمل بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قوله: "فإذا فَرَغَ اضطجع على شقّه الأيمن، حتى يأتيه المؤذّن، فيصلي ركعتين خفيفتين"، قال القاضي عياض -رَحِمَهُ اللَّهُ-: في هذا الحديث أن الاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر، وفي الرواية الأخرى عن عائشة -رضي اللَّه عنها- أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يضطجع بعد ركعتي الفجر، وفي حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن الاضطجاع كان بعد صلاة الليل قبل ركعتي الفجر، قال: وهذا فيه رَدٌّ على الشافعيّ وأصحابه في قولهم: إن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر سنة، قال: وذهب مالك، وجمهور العلماء، وجماعة من الصحابة، إلى أنه بدعةٌ، وأشار إلى أن رواية الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مرجوحة، قال: فتقدم رواية الاضطجاع قبلهما، قال: ولم يقل أحد في الاضطجاع قبلهما: إنه سنة، فكذا بعدهما، قال: وقد ذكر مسلم عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: "فإن كنت مستيقظة حدَّثني، وإلا اضطجع"، فهذا يدلّ على أنه ليس بسنة، وأنه تارةً كان يضطجع قبلُ وتارةً بعدُ، وتارة لا يضطجع، هذا كلام القاضي -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
وتعقّبه النوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، فقال: والصحيح، أو الصواب أن الاضطجاع بعد سنة الفجر؛ لحديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر، فليضطجع على يمينه"، رواه أبو داود، والترمذيّ، بإسناد صحيح، على شرط البخاريّ ومسلم، قال الترمذيّ: هو حديث حسنٌ صحيحٌ.
فهذا حديث صحيحٌ صريحٌ في الأمر بالاضطجاع.
وأما حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- بالاضطجاع بعدها وقبلها، وحديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قبلها، فلا يخالف هذا، فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلها أن لا يضطجع بعدُ، ولعلّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ترك الاضطجاع بعدها في بعض الأوقات؛ بيانًا للجواز، لو ثبت الترك، ولم يثبت، فلعلّه كان يضطجع قبلُ وبعدُ، وإذا صح الحديث في الأمر بالاضطجاع بعدها، مع روايات الفعل الموافقة للأمر به، تَعَيَّن المصير إليه، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث، لم يجز رَدُّ بعضها، وقد أمكن بطريقين أشرنا إليهما: