قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وبهذا يرتفع الإشكال، ولا يعكُر عليه ما في رواية رفاعة الجهنيّ:"ينزل اللَّه إلى السماء الدنيا، فيقول: لا يسأل عن عبادي غيري"؛ لأنه ليس في ذلك ما يدفع التأويل المذكور.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كيف لا يعكر عليه؟، فالأولى والأوجه الجمع بأنه عزَّ وجلَّ يأمر مناديًا ينادي، ثم ينادي هو، كما هو سنته في غير ذلك، فإنه إذا شاء كلّم من يشاء من عباده، كما وقع لموسى عليه السلام، وغيره، وإذا شاء أمر من يكلّمه من الملائكة، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
ثم نقل عن البيضاويّ تأويلًا من جنس ما ذكره ابن العربيّ، تركت ذكره؛ لما أسلفته هناك.
والحاصل أن الحقّ هو ما ذهب إليه السلف -رضي اللَّه عنهم-، قال الإمام ابن حبّان -رَحِمَهُ اللَّهُ-: صفات اللَّه -جل وعلا- لا تُكَيّف، ولا تقاس إلى صفات المخلوقين، فكما أن اللَّه جل وعلا متكلمٌ من غير آلة، بأسنان ولَهَوَات ولسان وشفة، كالمخلوقين -جل ربنا وتعالى- عن مثل هذا وأشباهه، ولم يجز أن يقاس كلامه إلى كلامنا؛ لأن كلام المخلوقين لا يوجد إلا بآلات، واللَّه -جل وعلا- يتكلم كما شاء بلا آلة كذلك ينزل بلا آلة، ولا تحرُّك ولا انتقال من مكان إلى مكان، وكذلك السمع والبصر، فكما لم يجز أن يقال: اللَّه يبصر كبصرنا بالأشفار والحدق والبياض، بل يبصر كيف يشاء بلا آلة، ويسمع من غير أذنين وسماخين والتواء وغضاريف فيها، بل يسمع كيف يشاء بلا آلة، وكذلك ينزل كيف يشاء بلا آلة، من غير أن يقاس نزوله إلى نزول المخلوقين، كما يُكَيَّف نزولهم جل ربنا وتقدس من أن تُشَبَّه صفاته بشيء من صفات المخلوقين. انتهى كلام ابن حبّان -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وهو تحقيق حسنٌ.
والحاصل أن مذهب السلف في هذه المسألة هو الحقّ الذي لا جدال فيه، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى-.
وقوله:(تَبَارَكَ وَتَعَالَى) جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه، وهو قوله:(كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) أي: القريبة من الأرض (حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ) بضمّ اللام، وسكونها، وفيه لغة ثالثة، وهي الثَّلِيث بفتح، فكسر، وهكذا تأتي اللغات الثلاث إلى العُشُر، والْعُشْر، والْعَشِير (اللَّيْلِ الْآخِرُ) بالرفع صفة لـ "ثلثُ".