للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

مسلم" أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يثني على ربه بذلك في دعاء الاستفتاح، في قوله: "لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشرّ ليس إليك، أنا بك، وإليك، تباركت وتعاليت"، فتبارك وتعالى عن نسبة الشرّ إليه، بل كل ما نُسِب إليه فهو خير، والشر إنما صار شرًّا لانقطاع نسبته وإضافته إليه، فلو أضيف إليه لم يكن شرًّا، وهو سبحانه خالق الخير والشرّ، فالشرّ في بعض مخلوقاته، لا في خلقه وفعله، وخلقُهُ وفعلُهُ وقضاؤه وقدره خيرٌ كله، ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضعُ الشيء في غير موضعه، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، وذلك خير كلّه، والشر وضع الشيء في غير محله، فإذا وُضِعَ في محله لم يكن شرًّا، فعُلِم أن الشرّ ليس إليه، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك.

ثم قال: فإن قلت: فلم خلَقه، وهو شرٌّ؟، قلت: خلْقه له وفعله خيرٌ لا شرٌّ، فإن الخلق والفعل قائم به سبحانه وتعالى، والشرّ يستحيل قيامه به، واتّصافه به، وما كان في المخلوق من شرّ فلعدم إضافته ونسبته إليه، والفعل والخلق يُضاف إليه، فكان خيرًا. انتهى كلام ابن القيّم -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١)، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.

وقال العلامة ابن أبي العزّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في "شرح العقيدة الطحاويّة" موضّحًا معنى قوله: "والشرُّ ليس إليك": أي: فإنك لا تخلق شرًّا محضًا، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة، هو باعتبارها خيرٌ، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فهذا شرّ جزديّ إضافيّ، فأما شرّ كليّ أو شر مطلقٌ، فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه، ولهذا لا يضاف الشر إليه مفردًا قطّ، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات، كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: ١٦]، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: ٧٨]، وإما أن يضاف إلى السبب، كقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢)} [الفلق: ٢]، وإما أن يحذف فاعله، كقول الجنّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠)} [الجن: ١٠]، وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة، بل اللَّه من الرحمة والحكمة، لا يقدر قدره إلا اللَّه تعالى، وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شرّ جزئيّ بالإضافة يكون شرًّا كليًّا عامًّا، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيرًا، أو


(١) "شفاء العليل" ١/ ١٧٩ - ١٨٠.