(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تفسير قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يتغنى بالقرآن":
قال سفيان بن عيينة -رَحِمَهُ اللَّهُ-: تفسيره يستغني به، وإليه ميل البخاريُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ويمكن أن يُستأنس له بما أخرجه أبو داود، وابن الضُّريس، وصححه أبو عوانة عن ابن أبي مليكة، عن عبيد اللَّه بن أبي نَهيك، قال: لقيني سعد بن أبي وقّاص -رضي اللَّه عنه-، وأنا في السوق، فقال: تجار كسبة، سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن"، وقد ارتضى أبو عبيد تفسير "يتغنى" بيستغني، وقال: إنه جائز في كلام العرب، وأنشد الأعشى [من المتقارب]:
وَكُنْتُ امْرَءًا زَمَنًا بِالْعِرَاقِ … خَفِيفَ الْمُنَاخِ طَوِيلَ التَّغَنِّي
أي: كثير الاستغناء. وقال المغيرة بن حَبْنَاء [من الطويل]:
كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ … وَنَحْنُ إِذَا مِتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيَا
قال: فعلى هذا يكون المعنى: من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا، فليس منّا؛ أي: ليس على طريقتنا.
واحتَجَّ أبو عبيد أيضًا بقول ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: "من قرأ سورة آل عمران، فهو غني"، ونحو ذلك.
وقال ابن الجوزيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: اختلفوا في معنى قوله: "يتغنى" على أربعة أقوال: (أحدها): تحسين الصوت. (والثاني): الاستغناء. (والثالث): التحزُّن. قاله الشافعي. (والرابع): التشاغل به، تقول العرب: تغنى بالمكان أقام به.
قال الحافظ: وفيه قول آخر، حكاه ابن الأنباريّ في "الزهر" قال: المراد به التلذذ، والاستحلاء له، كما يَسْتَلِذُّ أهل الطرب بالغناء، فأَطْلَق عليه تغنيًا من حيث إنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء، وهو كقول النابغة [من الوافر]:
بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلًا … مُفَجَّعَةً عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي
أَطْلق على صوتها غِنَاء؛ لأنه يُطْرِب كما يُطْرِب الغناء، وإن لم يكن غناءً حقيقةً، وهو كقولهم: "العمائم تيجان العرب"، لكونها تقوم مقام التيجان.
وفيه قول آخر حسن، وهو أن يجعله هِجِّيرَاه، كما يجعل المسافر والفارغ هِجّيراه الغناءَ، قال ابن الأعرابي: كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى، وإذا