جلست في أفنيتها، وفي أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يكون هِجِّيراهم القراءةَ مكانَ التغني.
ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدِّم، فإنه أراد بقوله:"طويل التغني" طول الإقامة، لا الاستغناء؛ لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء؛ يعني: أنه كان ملازمًا لوطنه بين أهله، كانوا يتمدحون بذلك، كما قال حسان [من الكامل]:
أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع، ولا يَبْرَحون من أوطانهم، فيكون معنى الحديث: الحثّ على ملازمة القرآن، وأن لا يُتَعَدَّى إلى غيره، وهو يؤول من حيث المعنى إلى ما اختاره البخاريّ من تخصيص الاستغناء، وأنه يُسْتَغنَى به عن غيره من الكتب.
وقيل: المراد: من لم يغنه القرآن، وينفعه في إيمانه، ويُصَدِّق بما فيه من وعد ووعيد، وقيل: معناه: من لم يَرْتَحْ لقراءته وسماعه، وليس المراد ما اختاره أبو عبيد أنه يحصل به الغنى دون الفقر، لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع، إذا أريد به الغنى المعنويّ، وهو غنى النفس، وهو القناعة، لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر؛ لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة، إلا إذا كان ذلك بالخاصية، وسياق الحديث يأبى الحمل على ذلك، فإن فيه إشارة إلى الحثّ على تكلف ذلك، وفي توجيهه تكلف، كأنه قال: ليس منّا من لم يتطلب الغنى بملازمة تلاوته.
قال الحافظ: وأما الذي نقله عن الشافعي، فلم أره صريحًا عنه في تفسير الخبر، وإنما قال في "مختصر المزنيّ": وأحب أن يقرأ حَدْرًا وتحزينًا. انتهى.
قال أهل اللغة: حَدَرْتُ القراءة: أدرجتها، ولم أُمْطِطها، وقرأ فلان تحزينًا: إذا رقق صوته، وصيّره كصوت الحزين.
وقد رَوَى ابن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: "أنه قرأ سورة، فحزنها شبه الرَّثْي"، وأخرجه أبو عوانة عن الليث بن سعد، قال:"يتغنى به، يتحزَّن به، ويُرَقِّق به قلبه".
وذكر الطبريّ عن الشافعيّ أنه سئل عن تأويل ابن عيينة التغني