اشتركت الحواسّ الأربع دون الاحتظاء بها: البصر، والذوق، والشمّ، واللمس، ثم إنها في أجزائها تنقسم على طبائعَ، فقشرها حارّ يابسٌ، ولحمها حارّ رَطْبٌ، وحماضها باردٌ يابسٌ، وبذرها حارّ مجفّفٌ، وفيها من المنافع ما هو مذكور في الكتب الطبيّة، وأيّةُ ثمرة تبلُغ هذا المبلغ في كمال الخِلْقة، وشمول المنفعة؟.
ثم إنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ضرب المثل بما تُنبته الأرض، ويُخرجه الشجر؛ للمشابهة التي بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، فخصّ ما يُخرجه الشجر من الأُتْرُجّة والتمر بالمؤمن، وما تُنبته الأرض من الحنظلة والريحانة بالمنافق؛ تنبيهًا على علوّ شأن المؤمن، وارتفاع عمله، ودوام ذلك، وتوقيفًا على ضَعَةِ شأن المنافق، وإحباط عمله، وقلّة جدواه.
قال الطيبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: اعلم أن هذا التشبيه والتمثيل في الحقيقة وصف لموصوفٍ اشتَمَلَ على معنى معقولٍ صِرْفٍ، لا يُبْرِزُهُ عن مكنونه إلا تصويره بالمحسوس المشاهد، ثم إن كلام اللَّه تعالى المجيد له تأثيره في باطن العبد وظاهره، وإن العباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير، وهو المؤمن القارئ، ومنهم من لا نصيب له البتّةَ، وهو المنافق الحقيقيّ، ومن تأثر ظاهره دون باطنه، وهو المرائي، أو بالعكس، وهو المؤمن الذي لم يقرأه، وإبراز هذه المعاني، وتصويرها في المحسوسات ما هو مذكور في الحديث، ولم يجد ما يوافقها ويلائمها أقرب، ولا أحسن، ولا أجمع من ذلك؛ لأن المشبّهات والمنبّه بها ورادة على التقسيم الحاصر؛ لأن الناس إما مؤمنٌ، أو غير مؤمن، والثاني إما منافقٌ صِرْفٌ، أو مُلحقٌ به، والأول إما مواظبٌ على القراءة، أو غير مواظبٍ عليها، فعلى هذا قس الأثمار المشبّه بها، ووجه الشبه في المذكورات مركّبٌ منتزعٌ من أمرين محسوسين: طعمٌ وريحٌ، وليس بمفرّق، كما في قول امرئ القيس [من الطويل]: