الاعتصام والالتجاء والهرب إليه، فالأول يخبر عن حاله وعياذه بربه، وخبرُه يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه، والثاني طالب سائل من ربه أن يعيذه، كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني، فحال الأول أَكمَل مَجِيء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر.
ولهذا جاء عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في امتثال هذا الأمر:"أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم"، و"أعوذ بكلمات اللَّه التامات"، و"أعوذ بعزة اللَّه وقدرته"، دون أستعيذ، بل الذي علمه اللَّه إياه أن يقول: أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس، دون أستعيذ فتأمل هذه الحكمة البديعة.
[الفصل الثاني]: في المستعاذ به:
المستعاذُ به وهو اللَّه وحده ربّ الفلق، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم ويمنعهم من شرّ ما استعاذوا من شره.
وقد أخبر اللَّه تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانًا ورَهَقًا، فقال حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦)} [الجن: ٦]، جاء في التفسير أنه كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر، فأمسى في أرض قفر، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح، أي فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رَهَقًا، أي طغيانًا وإثمًا وشرًّا، يقولون: سُدْنا الإنس والجنّ، والرهق في كلام العرب الإثم، وغشيان المحارم، فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانًا لما كان محظورًا من الكبر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن.
واحتَجَّ أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات اللَّه غير مخلوقة، بأن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- استعاذ بقوله أعوذ بكلمات اللَّه التامات، رواه مسلم، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يستعيذ بمخلوق أبدًا.
ونظير ذلك قوله:"أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك"، رواه مسلم، فدلَّ على أن رضاه وعفوه من صفاته، وأنه غير مخلوق، وكذلك قوله:"أعوذ بعزة اللَّه وقدرته"، أخرجه مسلم، وقوله: "أعوذ بنور وجهك الذي