للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقبل الكلام في ذلك لا بدّ من بيان الشرّ ما هو؟ وما حقيقته؟ فنقول: الشرّ يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يُفضي إليه، وليس له مسمى سوى ذلك.

فالشرور هي الآلام وأسبابها، فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذّة، لكنها شرور؛ لأنها أسباب الآلام، ومفضية إليها، كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها، فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار، والْخَنْق بالْحَبْل وغير ذلك من الأسباب التي تصيبه مفضية إلى مسبباتها ولا بدّ ما لم يمنع السببية مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه، وأشد اقتضاء لضده، كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان، وعظمة الحسنات الماحية وكثرتها، فيزيد في كميتها وكيفيتها على أسباب العذاب، فيدفع الأقوى للأضعف.

وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة، كأسباب الصحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة، والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لذّةٌ ما هي شرّ، وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة، وهي بمنزلة طعام لذيذ شهيّ لكنه مسموم إذا تناوله الآكل لذّ لآكله، وطاب له مساغه، وبعد قليل يفعل به ما يفعل، فهكذا المعاصي والذنوب ولا بدّ، حتى لو لم يُخْبِر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة الخاصة والعامة من أكبر شهوده، وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته، فإن اللَّه إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: ١١].

ومن تأمل ما قَصّ اللَّه تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره، وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال اللَّه عنهم من نعمه، وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب، كما قيل [من المتقارب]:

إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا … فَإِنَّ الْمَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ