(وثالثها): أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- اطّرحوا توهّم الخصوص في هذه الصلاة، وعَدَّوْه إلى غير النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهم أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، فلا يُلتفت إلى قول من ادّعى الخصوصيّة. انتهى كلام القرطبيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).
وقال في "الفتح": معنى قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ}[النساء: ١٠١] أي: سافرتم، ومفهومه أن القصر مختصّ بالسفر، وهو كذلك، وأما قوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ}[البقرة: ٢٢٩] فمفهومه اختصاص القصر بالخوف أيضًا، وقد سأل يعلى بن أميّة الصحابيُ عمرَ بن الخطّاب -رضي اللَّه عنه- عن ذلك، فذكر أنه سأل رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك، فقال:"صدقة تصدّق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته"، أخرجه مسلم، فثبت القصر في الأمن ببيان السنّة. واختُلف في صلاة الخوف في الحضر، فمنعه ابن الماجشون، أخذًا بالمفهوم أيضًا، وأجازه الباقون.
وأما قوله:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فقد أخذ بمفهومه أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه، والحسن بن زياد اللؤلؤيّ من أصحابه، وإبراهيم ابن عليّة، وحُكي عن المزنيّ صاحب الشافعيّ.
واحتُجّ عليهم بإجماع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- على فعل ذلك بعد النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلّوا كما رأيتموني أصلي"، فعموم منطوقه مقدّم على ذلك المفهوم.
وقال ابن العربيّ وغيره: شرط كونه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيهم إنما ورد لبيان الحكم، لا لوجوده، والتقدير: بيّن لهم بفعلك لكونه أوضح من القول، ثم إن الأصل أن كلّ عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفيةُ وردت لبيان الحَذَر من العدوّ، وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم.
وقال الزين ابن المنيّر: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم، كالخوف في قوله تعالى:{أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ}[النساء: ١٠١].
وقال الطحاويّ: كان أبو يوسف قد قال مرةً: لا تُصلّى صلاةُ الخوف بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وزعم أن الناس إنما صلّوها معه لفضل الصلاة معه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: وهذا القول عندنا ليس بشيء، وقد كان محمد بن شُجاع يَعيبه، ويقول: