للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهنا دُعي المسلمون المهاجرون للسؤال عن هذا الأمر العظيم، وبلغ بهم من الشدة والكرب ما عبروا عنه بقولهم: «ولم ينزل بنا مثلها قط»، واجتمعوا يتشاورون فيمَ يقولون؟ وتتفق الروايات كلها على صدق المسلمين في حديثهم، وثباتهم على معتقدهم رغم الظروف الصعبة، ويتفقون على القول: ونقول -والله- ما قال الله عز وجل، وما جاءنا به نبينا كائنًا في ذلك ما كان (١).

ومن يتق الله يجعل له مخرجًا .. وعجبك يشتد حين تعلمُ أن الحبشة النصرانية في معتقدها .. يُذعن قادتها للحق، ويقول النجاشي، على إثر سماعه مقولة جعفر في معتقدهم في المسيح بأنه عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .. وقد أخذ عودًا من الأرض فرفعه ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، ما تريدون ما يسوؤني هذا، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضؤه، ثم قال للمهاجرين: انزلوا حيث شئتم، وأمر بهدية الآخرين -من قريش- فردت عليهم ورجع وفد قريش مقبوحين (٢).

ورغم هذا النصر العظيم، ورغم الأنس بعدل النجاشي وجواره تظل الغربة عن الأهل والوطن هاجسًا للمهاجرين .. كيف لا وهم في منأى عن جوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا يسمعون حديثه، ولا يدرون عن حاله ولا يبلغهم في حينه ما يبلغ المسلمين من تشريعات نازلة، إلا ما تتناقله الرواة بعد حين من الدهر .. ومع ذلك كله ظل جعفر صابرًا محتسبًاه .. ويولد له في الحبشة عبدالله، ومحمد، وعون .. (٣).


(١) السيرة لابن هشام ١/ ٤١٦.
(٢) سير أعلام النبلاء ١/ ٢٠٧.
(٣) الطبقات ٨/ ٢٨١.

<<  <  ج: ص:  >  >>