للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عباد الله: ونحن في هذه الدار مبتلون، نَظنُّ بها الإقامة ونحن مسافرون، ويُخيل لنا -أحيانا - طولُ البقاء ونحنُ عن قريبٍ مرتحلون، تُداهمنا الخُطوب، وتتوالى علينا النُّذر، وتُدركنا الأقدارُ، ولا مفرَّ من الموت والنهاية، ولو كنتم في بروج مشيدة.

والمتأمل في أحوال الدنيا وأهلها لا يكاد يرى يمنةً إلا ويبصر محنةً، فإذا عطف عن يساره أبصر حسرة، ولو فَتَّشت العالمَ كلَّه لم تر فيهم إلا مُبتلىً، إما بفواتِ محبوبٍ، أو حصولِ مكروهٍ، وفي كلِّ وادٍ بنو سعدٍ -كما قيل -. الدنيا أحلامُ نومٍ، وظلّ زائل، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرّت يومًا ساءت دهرًا، وإن متَّعت قليلًا منعت كثيرًا، وما ملأت دارًا خيرةً إلا ملأتها عَبْرةً، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.

قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: لكل فرحةٍ ترحة، وما مُلئ بيتٌ فَرَحًا إلا مُلئ ترحًا.

وقالت هندُ بنتُ النعمان: لقد رأيتُنا ونحن من أعزِّ الناس وأشدهم مُلكًا، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس، وإنه حقٌ على الله ألا يملأ دارًا خيرة إلا ملأها عَبْرة.

وسألها رجلٌ أن تحدثه عن أمرها فقالت: أصبحنا ذا صباح وما في العربِ أحدٌ إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحدٌ إلا يرحمنا (١).

تلكُم معاشر المسلمين طبيعةُ الدنيا؛ غدّارة مكَّارة، لا يؤمن جانُبها، ولا ينخدع العقلاءُ بغرورها وأمانيها.

خطب الإمامُ الأوزاعي رحمه الله ووعظ الناس يومًا؛ فقال: أيها الناس: تقوَّوا بهذه


(١) ابن القيم: زاد المعاد ٤/ ١٩٠، ١٩١.

<<  <  ج: ص:  >  >>