للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأبو ذرّ نفسُه يقول: حين سألني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أنتَ؟ ». قُلت: من غفار، قال: فأهوى بيدِهِ فوضَعَ أصابِعَهُ على جبهتِه، فقلتُ في نفسي: كرِهَ أَنِ انتميتُ إلى غِفار (١).

بل لقد جاء في ترجمةِ أبي ذرّ نفسِه .. أنه كان يُغيرُ على الصِّرم في عِمايِة الصُّبح على ظهرِ فرسِه وقدميه كأنه السَّبُعُ، فيطرقُ الحيّ ويأخذُ ما أخذ (٢).

حتى إذا قذفَ اللهُ الإسلامَ في قلب أبي ذرّ وقومِه تغيرتِ الحالُ، وصنعَ الإسلامُ من أبي ذرٍّ نموذجًا للزُّهدِ والعفافِ، يتورعُ عن جمعِ المالِ وكنزِه - وإن كان حلالًا - وأنّى له أن يفكِّرَ في أخذِ الحرامِ أو الاعتداءِ على حقوقِ الآخرين؟

لقد ودّعَ أبو ذرٍّ الدنيا وهو لا يملكُ من متاعِها إلا القليلَ، ولم يُخلف بعد موتِه أموالًا ولا ضِياعًا، ولربما أعياه توفيرُ الكفنِ الذي يُكفنُ به - كما سيأتي البيان.

وكذلك يسمو الإسلامُ بالنفوسِ ويرفعها عن حُطامِ الدُّنيا، فإذا الآخرةُ محطُّ أنظارِها، وإذا الجِنانُ والأنهارُ محلُّ تفكيرِها، وفرقٌ بين من تكون الدُّنيا هدفَهُ وغايةَ طموحِه، ومن تكون الآخرةُ همَّه ومجالَ تفكيرِه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (٣).


(١) رواه مسلم.
(٢) رواه ابن سعد ٤/ ٢٢٢.
(٣) سورة الإسراء، الآيتين: ١٨، ١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>