فهل يتأمل الشاردون في غبنهم، وهل يعيد المفرطون الحساب مع أنفسهم ومع خالفهم، ونحن بعد في مستهل هذه العشرة التي ضمنها الله تعالى ليلة: العبادة فيها خير من العبادة في ما يزيد على ثلاثة وثمانين عامًا، وربك تعالى يقول {ليلة القدر خير من ألف شهر} وكم هي نعمة أن يتخفف المرء في هذا الشهر من الذنوب والأوزار التي لو كان لها جرم لما أطاق الإنسان حملها لثقلها، ولو كان للذنوب رائحة لزكمت الأنوف لشدة نتنها «ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والذي يحتسبون على الله قيام ليالي العشر لابد وأن يدركوا هذه الليلة، فهي في العشر الأواخر، وهي في الأوتار أحرى وآكد.
وفي الليل سواء كان في رمضان أو غيره- ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئًا من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، ولكم هو وقت النزول الإلهي، ومنه الثلث الأخير من الليل، يقول المولى جل جلاله في هذه الساعة: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ .. فأين أنت يا عبد الله عن هذا المورد العظيم، وإذا غلبتك نفسك في سائر العام أفلا تغلبها على الأقل في هذه الليالي والأيام.
أخوة الإيمان إذا كان قيام الليل أعظم ما يرجى وأزكى ما يقدم في هذه العشر منحة قربات حري بالمؤمن أن يتقدم بها لمولاه في هذه الليالي والأيام الفاصلة .. فذكر الله على كل حال سياج من الشيطان ودرع واق للإنسان، ويكفي أن يعلم أن مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت .. ويرحم الله أمواتًا رغبوا لأنفسهم الموت وهم بعد أحياء، ويرحم الله أمواتًا إذا ذكرهم الناس ذكروا الله وإن كانوا أجداثًا في قبورهم.
فليس من مات فاستراح ... بميت إنما الميت ميت الأحياء.