للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الحسنُ البصريُّ في كتابٍ كتبه إلى عمرَ بن عبدِ العزيز - رحمهما الله - «لأصِفَنَّ لك الدنيا ساعةً بين ساعتين، ساعةٌ ماضيةٌ، وساعةٌ آتيةٌ، وساعةٌ أنت فيها، فأما الماضيةُ والباقيةُ فليس تجدُ لراحتهما لَذةً، ولا لبلائهما ألمًا، وإنما الدنيا ساعةٌ أنت فيها فخدعتكَ تلك الساعةُ عن الجنةِ وصيّرتك إلى النارِ، وإنما اليومُ - إنْ عقلتَ - ضيفٌ نزل بك وهو مرتحلٌ عنك، فإن أحسنتَ نُزُلَه وقِرَاه شهِدَ لك وأثنى عليك بذلك، وصَدَق فيك، وإن أسأتَ ضيافَتَه ولم تُحسنِ قِرَاه جال في عينيكَ .. إلى أن يقول: إن الذي بقي من العُمر لا ثمنَ له ولا عِدْلَ، فلو جُمعتِ الدنيا كلُّها ما عَدَلتْ يومًا بقيَ من عُمرِ صاحبهِ، فلا تَبعِ اليومَ ولا تعدِلْه من الدنيا بغير ثَمنهِ، ولا يكون المقبورُ أعظم تعظيمًا لما في يديك منك - وهو لك - فلعَمري لو أن مدفونًا في قبره قيل له: هذه الدنيا أولُها إلى آخِرها تجعلُها لولدِك من بعدكَ يتنعَّمون فيها من ورائك، فقد كنتَ وليس لكَ همٌّ غيرُهُم، أحبُّ إليك، أم يومٌ تُتْرَكُ فيه تعملُ لنفسِك لاختار ذلك .. بل لو اقتصر على ساعةٍ خُيّرَها، وما بين أضعافِ ما وصفتُ لك وأضعافِهِ، يكون لسواه إلا اختار الساعةَ لنفسِه على أضعافِ ذلك يكون لغيرِه، بل لو اقتصر على كلمةٍ يقولها تُكتبُ له، وبين ما وصفتُ لك وأضعافِه، لاختار الكلمةَ الواحدةَ عليه، فانتقدِ اليومَ لنفسِك، وأبصِرْه الساعةَ، وأعظم الكلمةَ، واحذرِ الحسرةَ عند نزول السّكرةِ».

عبادَ الله: ما أعظمَ الفرقَ بين هِمَمِنا وهِمَمِهم! وكم يبعدُ تفكيرُنا عن تفكيرهم؟ حتى ليخيَّلُ إليك أحيانًا - أن للقوم أهدافًا غير أهدافِنا - أو أن لنا غايةً غيرَ غايتِهم؟

كم تمضي علينا الساعاتُ والأيامُ - فضلًا عن الشهور والسنوات - ونحن في غفلة ساهون! وللأوقات مضيِّعون، وعن الآخرة غافلون .. وكم تخرج منا

<<  <  ج: ص:  >  >>