ثم استمرتِ المناوشاتُ بين المسلمين والنصارى قرونًا متطاولةً، وكانت الحروبُ الصليبيةُ ضد المسلمين من أعتى هذه الحروبِ وأوسَعِها نِطاقًا، وذلك يومَ أن دعتِ البابويةُ - في أوروبا - لشنّ حربٍ على المسلمين تثأرُ بها الكنيسةُ الغربيةُ لما حلَّ بالعالمِ النصرانيِّ من خسائرَ نتيجةَ حركةِ الفتح الإسلاميِّ، ودخولِ أصقاعٍ وأممٍ في دين الإسلام.
وفي هذه الحملاتِ الصليبيةِ تحرّك رجالُ الكنيسةِ، وبرزَ نشاطُ القساوسةِ والرُّهبانِ، واجتمع إليهم الساسةُ الأوربيون، كلُّ ذلك في سبيل إثارةِ العواطفِ ودفْعِ النصارى إلى التضحية بكلّ ما يملكون في سبيل القضاءِ على الإسلام والمسلمين، وقد عبّر عن حقيقةِ الأهدافِ الدينيةِ في هذه الحروبِ مؤرخو الغربِ، وقال أحدُهم: هذه المشاعرُ التي حرّكتِ النصرانيةَ للقيام بالحروب المقدسةِ لم يكن هدفُها القتالَ من أجل ممالكَ أرضيةٍ، بل في سبيل مملكةِ السماء (١).
ولكنّ الله هيأَ للمسلمين قادةً صالحين، لم يقعد بهم نَسبُهم غيرُ العربيِّ عن مواصلةِ ما ابتدأه إخوانُهم من قَبلهم، فكان في العنصر التركيِّ والكردي والتركماني رجالٌ أوفياءُ لقّنوا الصليبيين دروسًا لن ينسَوْها، وبثُّوا في المسلمين رُوحَ الجهاد حتى خلَّصوا بلادَ ومقدساتِ المسلمين من سيطرة الصليبيين.
وظلّ النصارى محتفظين بحقدِهم على الإسلام والمسلمين، وما زالوا يُخطِّطون للقضاء على وِحدةِ المسلمين، حتى تمّ لهم ما أرادوا حين قضوا على الخلافةِ الإسلاميةِ، وفرّقوا المسلمين على شكل دويلاتٍ تفصِلُها الحدودُ
(١) انظر مقال: د. عبد الله الربيعي، الدوافع الدينية للحركة الصليبية، الإطار التاريخي للحركة الصليبية، من منشورات: اتحاد المؤرخين العرب/ ١٤١٦.