وآذانَهم، فخرجَ إليه أهلُ الثغورِ من الشامِ والجزيرةِ، إلا مَنْ لم يكنْ له دابةٌ ولا سلاحٌ.
أما الخليفةُ العباسيُّ المعتصِمُ فكان حينَها منشغلًا بفتنةِ بابَكَ الخُرَّمِيِّ، ويسَّر اللهُ له القضاءَ عليه، وأخمدَ فتنتَه، وكان ذلك سببًا في طَمَع النصارى في بلاد المسلمين، واستثمارًا سيِّئًا لهذه الفتنةِ في حينِ غفلةٍ من المسلمينَ عنهم -أو هكذا ظنُّوا- ولكنّ الخليفةَ المعتصمَ حين بلغه خبرُ النصارى وما صنعوا في بلادِ المسلمينَ استعظَمَ الأمرَ، وتألَّم لمُصابِ المسلمينَ على أيدي النصارى، وزادَ من ألمِه -كما ذكرَ ابنُ الأثيرِ- أنّ امرأةً هاشميةً صاحَتْ وهي أسيرةٌ في أيدي الروم تقول:(وامُعتصِماه) فبلغَهُ ذلك الصريخُ فأجابها من ساعتِه بقوله: لبّيكِ لبّيكِ، ونهضَ من ساعتِه وصاحَ في قصرِه: النفيرَ النفيرَ، وأمرَ بتعبئةِ الجيوشِ، واستدعى القاضيَ والشهودَ فأشهَدَهُم أن ما يملِكُه من الضِّياعِ ثلثُه صدقةٌ، وثلثُه لولدِه، وثلثُه لموالِيه .. وخرجَ قائدًا للجيشِ العظيمِ بنفسِه، وانتصارً للمسلمينَ المحاصَرينَ من قِبَلِ الروم بعثَ الرسلَ بين يديهِ ليأتوه بالأخبار، فرجعوا إليه يقولونَ: إن ملكَ الرومِ صنعَ ما صنعَ بالمسلمينَ ثم رَجَعَ قافلًا إلى بلادِه، فلم يَثْنِ ذلكَ من عَزْمِ الخليفةِ، بل أرادَ الانتصارَ للمسلمينَ وتأديبَ النصارَى وحصارَهم في أعظمِ مدنِهم، ولذا سأل المعتصمُ أُمراءَه قائلًا: أيُّ بلادِ الرومِ أمنعُ أَحصنُ؟ قالوا: عَمُّوريَة، فهي عينُ النصرانية، وهي أشرفُ عندهم من القُسطنطينيةِ، ولم يَعْرِضْ لها أحدٌ منذُ كان الإسلامُ، فقرَّر المعتصمُ غزوَها، وجهَّز لها جيشًا لم يجهِّزْه أحدٌ قبلَه من الخلفاء .. حتى فتحَها اللهُ على يديهِ وعلى أيدي الأبطالِ من المسلمينَ الذين أبلَوْا بلاءً حسنًا، حتى تمَّ الفتحُ لهم وكسَروا شوكةَ النصارَى، وعزَّ الإسلامُ وانتصرَ المسلمون (١).
(١) تاريخ الطبري ٩/ ٥٥ - ٥٧، الكامل لابن الأثير ٦/ ٤٧٩، ٤٨٠، البداية والنهاية ١٠/ ٣٢٣.