للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثالثًا: عُمرُ وَهَمُّ الأمةِ .. وُلِّيَ عمرُ الخلافةَ وهوُ لها كاره، فاستعانَ باللهِ، وأعانه. وإذا نظرَ غيرُ عمرَ إلى المسئوليةِ على أنها مغنمٌ فقدْ رأها الخليفةُ عمرُ مغرَمًا .. ومسئوليةً وهمًّا .. وطالما بكى- وحقَّ له البكاء- لعظمِ الحمالةِ التي يحملها .. وهذه زوجتهُ فاطمةُ بنتُ عبدِ الملك- رحمَها الله- تقول: دخلتُ على عمرَ وهوَ في مُصلاه واضعًا يدَهُ على خدِّه، سائلةً دموعَه، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين: ألشي حدَث (تبكي)؟ ! قال: يا فاطمةُ، إني تقلدتُ أمرَ أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فتفكرتُ في الفقيرِ الجائع، والمريضِ الضائع، والعاري المجهودِ، والمظلومِ المقهور، والغريبِ المأسور، والكبيرِ وذي العيال في أقطارِ الأرض، فعلمتُ أنَّ ربي سيسألُني عنهم، وأنَّ خصمَهم دونَهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فخشيتُ ألا تثبتَ لي حُجَّةٌ عندَ خصومتهِ، فرحمتُ نفسي فبكيت (١).

رابعًا: ممَّ يخافُ عمر؟ في ترجمةِ عمرَ خوفٌ وبكاء، وتحسبٌ واعٍ ليومِ المعاد، فما كانَ يخافُ ذهابَ الملك منْ يده .. وهو الذي قبلَ الخلافةَ على كُرْه، وما كانَ عمرُ يرهبُ الموتَ لذاتِ الموت، فقدْ كانَ يراهُ سُنةً ماضيةً في الأولينَ والآخرين (٢)، وحينَ طلبَ منهُ نفرٌ أنْ يتحفظَ في طعامه، ويسألونهُ أنْ يكونَ لهُ حرسٌ إذا صلى، لئلا يُقتلَ غِيْلةً، وسألوهُ أن يتنحَّى عن الطاعون،


(١) سير أعلام النبلاء ٥/ ١٣١، ١٣٢.
(٢) وهو القائل:
من كان حين تصيب الشمس جبهته
أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته
فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثًا
في قعر مظلمة غبراء موحشة
يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به
يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثًا

<<  <  ج: ص:  >  >>