للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العبيد المأسورين، وتضاءل الملك العريض من حوله، وكان نصيبه من الدنيا ملجأً ضيقًا يستتر به إن لم يكن حظه سجنًا مظلمًا يُغيَّبُ فيه.

وإذا كان هذا جزاءً وفاقًا لما تنكبوا عن صراط الله المستقيم، ونّحوا شرع الله عن أرضه وخلقه، وغرتهم الحياة الدنيا، وغرهم بالله الغرور، فتعالوا بنا لنقف على صورة أخرى من التمكين، رضي الله عنها، وخلد القرآن ذكرها وكان ذو القرنين نموذجها: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً} (١).

وذو القرنين من عباد الله الصالحين، ونتوقف في نبوته، كما توقف النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال «وما أدري، كما توقف النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: «وما أدري أتبع نبي أم لا؟ وما أدري ذا القرنين نبيًا أم لا» (٢).

لقد أعطاه الله ملكًا عظيمًا فيه من كل أدوات التمكين والجنود مما يؤتاه الملوك، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، وطاف الأرض كلها حتى بلغ قرني الشمس، مشرقها ومغربها، ولهذا سمي بذي القرنين.

وليس يتم التمكين إلا بالعلم الذي يصون الملك عن أسباب التفكك والانهيار، ويمنع الملوك من التكبر والظلم الذي يجعل مصيرهم الدمار والهلاك، وبهذا فسر ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} يعني علمًا (٣).

أجل، إن ذا القرنين، مع توكله على الله، لم يتواكل ويغفل الأسباب المؤدية إنما تمكينه في الأرض، بل استخدم ما منحه الله من علم في سبيل تعريف


(١) سورة الكهف، الآية: ٨٤، ٨٥.
(٢) رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير ٥/ ١٢١).
(٣) تفسير ابن كثير ٥/ ١٨٥، ١٨٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>