للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وصاحب هذا القلب وإن تقلَّب بين الناس حيًا، فهو في عداد الموتى، تمر عليه الآيات والزواجر، ويبصر في الكون وفي ذات نفسه من آلاء اللهِ ما يهز القلوب الحيَّة، وتتصدع له الجبالُ الرواسي، ولكنها لا تحرك فيه ساكنًا، لا تؤثر فيه موعظةُ الموت، وإن شيع أكثر من جنازة، بل ربما حمل الجنازة بنفسه، وواراها بالتراب، ولم تتحرك منه عبرةٌ أو تنزل له دمعة، ولربما سار بين القبور كسيره بين الأحجار؟ !

ولو قُدر له أن يناجيَ أهلَ القبور قائلًا: ماذا عندكم؟ وما هي أمانيكم؟ لقالوا: تركنا كلَّ شيء، ولم نحزن على شيء من الدنيا، سوى ساعة مرت بنا لم نعمل بها صالحًا، وما من حسرة هي أشدُّ علينا من لحظة عصينا الله وبارزناه بالمعاصي إن سرًا أو جهرًا .. ولكنا نرجو رحمة الله فأنفسنا رهينة بما كسبت، ولو خرجنا إلى الدنيا لرأيتم كيف نعملُ للآخرة، ولكن هيهات، وحقٌ على الأحياء أن يتعظوا بالأموات، لقد تزوجت نساؤنا، وقسم ميراثُنا .. وما بقي لنا أنيسٌ في ظلمة القبر سوى أعمالُنا الصالحة .. وكم تمنينا أن بيننا وبين ما عملنا من سوءٍ أمدًا بعيدًا .. وحق على الأحياء أن يستدركوا ما فات الموتى؟

ترى أيُّ قسوة للقلب تجعل صاحبها غافلًا لاهيًا عما خلق له، منهمكًا في جمع ما ليس له، يُعلق قلبَه بغير خالقه، ويخشى فوات ما هو مقدور له ويزهد في عمل هو سُّر سعادته وأنسه- ألا إن قسوة القلب وغفلته عقوبةٌ معجلةٌ له، والويل له إن لم يتدارك نفسه {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (١).

قال مالك بن دينار: «ما ضرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم» (٢).


(١) سورة الزمر، آية: ٢٢.
(٢) تفسير القرطبي ١٥/ ٢٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>