وينصحَهم ويذكرهم العَهد ويخوفهم الغدرَ ولعله سمع شيئًا من ذلك عنهم، فاجتمع بهم في سوقهم وقال:«يا معشر يهود احذروا من اللهِ مثل ما نزل بقريشٍ من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهدِ الله إليكم»، قالوا: يا محمد: إنك ترى أنَّا قومك؟ لا يغرنَّك أنك لقيتَ قومًا؛ لا علم لهم بالحربِ فأصبتَ منهم فرصةً إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس، ونزل فيهم قولهُ تعالى:«قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا .. » كما نُقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما (١).
وليس يخفى ما في هذه الكلمات من تهديدٍ، وإظهار الروحِ العدائية للمسلمين، ونكوصٍ عن قبول الحق، واستهجانٍ بقوة المسلمين رغم انتصارهم فإذا أضيف إلى ذلك ما ورد في السبب الأول - إن صح- يتبين لنا نقضُ اليهودِ للعهودِ، وتحينُهم الفرصةَ للغدر بمن يعاهدون ولو كان المعاهدُ نبيًا مرسلًا .. ولو كان العهدُ بالنصر قريبًا فإذا كان هذا واقعهم مع من يعرفون نبوتَه كما يعرفون أبناءهم، وتلك حالُهم مع المسلمين في وقت عزِّهم واجتماع كلمتهم فكيف يكون حالُهم بعد وفاة الرسولِ صلى الله عليه وسلم وفي حالِ ضعف المسلمين وفرقتهم؟
إن الذين يعتقدون التزامًا صادقًا من اليهود بالعهود والمواثيق، أو ينشدون صلحًا آمنًا وسلامًا دائمًا من وراء معاهداتِ الإسلام معهم، إنما يجرون وراء السراب الخادع ويحرثون في البحر الهائج .. كيف لا وقد حكم ربُّنا وربُّهم عليهم بنقض العهود، وليس ذلك حكمًا لفئةٍ منهم بل أكثرهم لا يؤمنون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.