فقد نقل عنهم واقتدى بهم علماء شريعة مشهورون، ومتخصصون في العقيدة بارزون، ومؤرخون وأدباء لهم مكانتهم، وذلك مثل الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور على سامي النشار، والدكتور مصطفى حلمي، والدكتور نعمان القاضي ... فضلا عن أحمد أمين وطه حسين وسهير القلماوي وشاكر مصطفى وأمثالهم وأتباعهم.
ويعجب الباحث أيما عجب حين يجد علماء وأساتذة ومؤرخين عرباً مسلمين يعتمدون اعتماداً كلياً على الكتيّب - بل المقال - الضحل السقيم الذي كتبه فان فلوتن بعنوان "السيطرة العربية" أو "الاستعمار العربي"، والذي ترجموه مخففاً باسم "السيادة العربية"!!
وإنني لأجزم يقيناً- ولو حلف غيري ما عددته حانثاً- هؤلاء الأساتذة لو قدر لأحدهم أن يناقش ما كتبه فلوتن باعتباره رسالة أو بحثاً لأحد الطلبة الأزهريين، لما منحه أدنى درجة علمية، ولأوسعه نقداً وذماً كما هو الحال في كثير من الرسائل العلمية التي هي أعلى مستوى في ذلك.
فهل كون الكاتب مستشرقاً يجعل ما كتبه مقبولاً، بل حجة ينقل عنها الأساتذة المتخصصون؟! والأنكى من ذلك أن يعارض به كلام المؤرخين المسلمين، حتى في مسألة تاريخية بحتة، كتحديد وفاة الحارث بن سريج!! ويبدو لي أن بعض المستشرقين العرب مثل أحمد أمين وزميله طه حسين وعبد الحميد العبادي قد تنبهوا لما قد يثار عن هذه المسألة، فما أن وجدوا نصاً للنووي يشعر بما يريدون حتى ألحقوه في هامش الكتاب (١)، وكأنما هو أصل مستندهم أو بعضه.
وبصرف النظر عن الحقد والتعصب لدى المستشرقين، نقول: إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الموضوع هو القياس الفاسد؛ فلما كانت الخلافة الإسلامية عندهم لا تختلف عن أية حكومة مذهبية، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد أشخاص لا يختلفون عن سائر الناس في المطامع والكيد السياسي، فإن الخلاف الذي وقع بينهم لا يعدو في أنظار هؤلاء أن يكون "أزمة صراع على السلطة"، من ذلك النوع الذي تشهده الحكومات الأوربية منذ انقراض عصر الملكيات التقليدية!
أما التزكية الإيمانية والتربية النبوية فأثرها عند هؤلاء محدود أو معدوم، وإليك رأي مؤلفي فجر الإسلام حين يتساءلون: "إلى أي حد تأثر العرب بالإسلام؟ " , "وهل انمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء، فالنزاع بين القديم والجديد، والدين الموروث والحديث يستمر طويلاً، ويحل الجديد محل القديم تدريجياً، وقل أن يتلاشى بتاتاً".
ولذلك تم تصنيف الفرق الإسلامية وفقاً لتصنيف الأحزاب السياسية والدينية الأوروبية، وابتدأوا ذلك منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وفي حياته!!
فجعلوا في الأمة يميناً ويساراً ووسطاً، وفي كل من اليسار واليمين متطرفون ومعتدلون ... إلخ، وكذلك قسموها إلى ديموقراطيين وثيوقراطيين ودكتاتوريين ... إلخ.
ولسنا في مقام تفصيل المهازل الساخرة التي أدى إليها تطبيق هذا القياس الفاسد، والخلافات التي لا يقوم أي منها على أساس موضوعي؛ مثل أن يجعل أحدهم الشيعة من اليسار المتطرف، والآخر يجعلها من اليمين المعتدل، ويجعل الخوارج بالعكس ... وهكذا.
(١) ((فجر الإسلام)) (١/ ٣٣٥)، والثلاثة مشتركون في السلسلة، كما ذكروه في المقدمة.