للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانياً: أن من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم التفريق بين صحة إمامة علي وبين وجوب القتال معه، بل صحة قتاله، إذ لا يلزم من كونه إماماً حقاً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين حقاً بإطلاق على ما سنبينه. على أن هؤلاء ليسوا هم كل من اعتزل الفتنة، بل اعتزلها من هو أجل منهم مثل سعد بن أبي وقاص، فإنه لم يكن على ظهر الأرض يوم صفين أفضل منه سوى علي وسعيد بن زيد، أحد العشرة، وهنالك من هو مثلهم، كزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهم رقم (٢٨٨٧). (١) ومنهم أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه، الذي صدع أيام الفتنة بين ابن الزبير والأمويين والخوارج: "إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش" الحديث، وذلك لأنه "كان يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في كل شيء من قتال المسلمين" (٢) وبالجملة، هذا هو مذهب أهل الحديث عامة، ومن تأمله ظهر له قوة دلائله النصية, وصدق نتائجه الواقعية، فقد صرح به إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وبنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية (٣).روى عنه الخلال أنه قال: ابن عمر وسعد ومن كف عن تلك الفتنة، أليس هو عند بعض الناس أحمد! هذا عليّ لم يضبط الناس، فكيف اليوم والناس على هذا الحال ... السيف لا يعجبني (٤) وقال أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله - وقد ذكر عنده عبد الله بن مغفل- فقال: لم يتلبس بشيء من الفتن! وذكر رجل آخر فقال: رحمة الله مات مستورا قبل أن يبتلى بشيء من الدماء (٥).وممن صح النقل عنه من أهل الحديث سفيان الثوري رحمه الله، وله كلمة عظيمة في هذا، قال: نأخذ بقول عمر رضي الله عنه في الجماعة، وبقول ابنه في الفرقة (٦).

وكان - رحمه الله - يصرح قائلاً: لو أدركت علياً ما خرجت معه!! قال يحيى بن آدم: فذكرت قوله للحسن بن صالح فقال: قل له: يحكى هذا عنك؟ فقال سفيان: ناد به عني على المنار (٧).

وعلى هذا المذهب كذلك الإمام البخاري صاحب (الصحيح)، فإن تراجم أبواب كتاب الفتن من صحيحه تنطق بذلك، وعلى منواله كتب مسلم وغيره من المصنفين في هذا الموضوع.

وقد رجح هذا المذهب وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، ومختصر أدلته على ذلك:

١ - النصوص الكثيرة التي استند إليها الممسكون عن الفتنة، ومنها ما سبق إيراده.

٢ - ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن، لأن الله أصلح به ما بين المسلمين وحقنت الدماء، في حين أنه لم يثن على قتال أبيه لأهل الشام، بل غاية ما وصف به أنه أدنى منهم إلى الحق، بخلاف قتاله للخوارج، فقد أثنى عليه نصاً، كما أن علياً نفسه فرح واستبشر بقتال الخوارج، وتألم وتكدر بقتال أهل الشام.


(١) جمعت أسماء هؤلاء وغيرهم من تتبعي لأحاديث الفتن، ولو أن أحدا استقصى ذلك لكان عملا مشكورا.
(٢) ((البخاري)) (١٣/ ٦٨)، والكلام للحافظ (ص ٧٣)
(٣) وقد ظهر صدق هذا الموقف حين رجع المتوكل إلى السنة، وانقلبت الدولة على رؤوس المبتدعة تنكيلا، وهذا جزاء الصبر وبركة اتباع النصوص، فللسيف موضعه وللحجة موضعها، والنصوص هي الحكم، ويعطي الله البصيرة من يشاء من عباده، فينزل النصوص على الواقع، ويصيب مناط الحكم.
(٤) الخلال، كتاب ((الإيمان)) للإمام أحمد، لوحة ١٢ من ((المسند الجامع)).
(٥) الخلال، كتاب ((الإيمان)) للإمام أحمد، لوحة ١٢ من ((المسند الجامع)).
(٦) الخلال، كتاب ((الإيمان)) للإمام أحمد، لوحة (١٢) من ((المسند الجامع))، ولعل مراده بقول عمر: الشورى والاختيار، وبقول ابنه: الكف عن القتال، ومبايعة من استقرت له الأمور، ولو كان مفضولا.
(٧) الخلال، كتاب ((الإيمان)) للإمام أحمد، (لوحة ١٢) من ((المسند الجامع)).

<<  <  ج: ص:  >  >>