وانطلاقاً من القاعدة المتفق عليها عند الخوارج عامة وهي أنهما مرتكبي كبيرة، استمر الجدل بشأن مرتكب الكبيرة، مع تناسي الأشخاص تدريجياً، حتى أصبح موضوعه مرتكب الكبيرة عامة، حيث أصر غلاة الخوارج على تكفيره، وأصر هؤلاء على إرجائه, على ما سبق تفصيله.
فانتقل الأخيرون- ربما وهم لا يشعرون- إلى نقطة بعيدة جداً عن نقطة البداية، حيث تحولوا من الفكر الخارجي إلى نقيضه وبعضهم عادى الخوارج معاداة شديدة كالحال دائماً في الفئات المنشقة, مع أن فيه بذرة أو شعبة منه.
وهذا بدقة هو الحال مع ثابت قطنة فهو يصرح بتخطئة الخوارج، ويقرر أن العاصي الموحد لا يحكم عليه بالكفر، ومع ذلك يصرح بإرجاء علي وعثمان، ويشك في دخولهما الجنة، وهذا عين ما قالته في حقهما مرجئة الخوارج الأولون (٣).
وحال ثابت- مع ما سبق قبله- هو الذي يفسر التناقض المستمر بين أصحاب الإرجاء الأول وبين الشيعة، بخلاف الإرجاء بمفهومه العام المتداول، فبعض الشيعة من الغلاة فيه كما سيأتي، إذ ليس ثمة شك في أن ثابتاً في نظر الشيعة خارجي سافر سواء سموه كذلك أم سموه مرجئاً.
فهو على أيه حال "ناصبي غال" عندهم، كما أنه خارجي واضح في نظر أهل السنة، إذا نظرنا لموقفه من الخليفتين، مجرداً عما قرره من مبدأ في صاحب الكبيرة عامة (البيتين السادس والسابع).
أما إذا نظرنا نظرة متكاملة- وهو الصواب- فلا شك أنه متناقض، وما كان أصحاب البدع إلا كذلك.
وعلى هذا المعنى للإرجاء نستطيع أن نفهم أبيات بشر بن المعتمر- رئيس معتزلة بغداد أيام الرشيد- فقد بلغ الرشيد عنه أنه رافضي، فسجنه فكتب في الحبس قصيدة رجزية طويلة تبلغ كما قيل أربعين ألف بيت, منها قوله:
لسنا من الرافضة الغلاة ... ولا من المرجئة الحفاة (٤)
لا مفرطين بل نرى الصديقا ... مقدماً والمرتضى الفاروقا
نبرأ من عمرو ومن معاوية (٥)
فالمعتزلة- كما هو معلوم- هم أقرب شيء إلى الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة، إذ قالوا: إنه لا مؤمن ولا فاسق من حيث إطلاق الاسم، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما من حيث العاقبة والمآل، فهم يتفقون مع الخوارج على أنه مخلد في النار أبداً كالكفار (١)!!
فخلافهم مع المرجئة في هذه المسألة خلاف تضاد، ولا موضع لتهمة المعتزلي بالإرجاء في الإيمان.
أما في مسألة الحكم على الصحابة المختلفين في الفتنة، فبعض المعتزلة الكبار كعمرو بن عبيد تبرأ من الطائفتين وقال: إحدى الطائفتين فاسقة لا بعينها (٢)، وهذا قريب من قول الخوارج، بل هو في الأصل قول بعض طوائفهم- كما سبق- لكن بتعديل وتحوير، ومعلوم أنه قول الروافض- أو بعضهم- بالنسبة للشيخين، ولعمرو ومعاوية، وإجمالاً لغير علي وطائفته.
ومن هنا جازت التهمة على بشر بأنه رافضي يتبرأ من الصحابة (أو مرجئي يرجئ أمرهم إلى الله معتبراً إياهم أصحاب كبائر، غير مقر بالشهادة لهم بالجنة) , وحبسه الرشيد، ودافع بشر عن نفسه بأنه ليس من الرافضة الغلاة - والغلاة هنا وصف لا مفهوم له- وأيضاً ليس من المرجئة الحفاة, المتنقصين لحق الصحابة، مقابل غلو أولئك منهم، بل هو وسط بزعمه غير مفرط، وفسر هذا التوسط بأن عقيدته ومن اتبعه تقديم الشيخين والإقرار بفضلهما والبراءة من بني أمية وأهل الشام والمحاربين لعلي وسكت بشر عن رأيه في عثمان وعلي أو لم تبلغنا الأبيات (٣).
لكن حصل مراده بنفي تهمة الرفض عنه بما قاله عن الشيخين، وإن كان هذا لا يخرجه عن كونه خارجياً، فالخوارج يقدمون الشيخين ويرضونهما، ثم يبرأون ممن بعدهما.
والمقصود أن مفهوم المرجئة في ذلك الزمن، كان يطلق على المرجئة الأولى إيضاً، أي الإرجاء المتعلق بالصحابة.