حتى لقد قال الإمام البخاري رحمه الله: " نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم " (٢).
ومن هنا أضرب أبو عبيد والطبري صفحا عن مناقشة مذهب جهم؛ لأنه ليس من مقالات المجتهدين في النصوص، بل هو من مذاهب أهل الجدل والتفلسف والكلام , ومنسلخ عن أقوال الملل الحنفية جميعها (٣).
ولكن أسبابا ومؤثرات - يأتي تفصيل الحديث عنها - أفضت في النهاية إلى أن يكون هذا المذهب أكثر المذاهب في الإيمان انتشارا، مع ما لحقه من تعديل هو لفظى أكثر من كونه حقيقيا، ومن نفي لبعض لوازمه.
فالذى حصل هو أن مذهب المرجئة الفقهاء مهد لرأي جهم، ثم جاء المرجئة المتكلمون كالأشعري والماتريدي، فجعلوه عقيدة أكثر طوائف الأمة - مع ما أشرنا إليه من تعديل -.
ولهذا قال وكيع بن الجراح - الإمام الكبير شيخ الإمام أحمد -: " أحدثوا (٤) هؤلاء المرجئة الجهمية، والجهمية الكفار، والمريسي جهمي، وعلمتم كيف كفروا، قالوا: يكفيك المعرفة، وهذا كفر، والمرجئة يقولون: الإيمان قول بلا فعل، وهذا بدعة " (٥).
وهذا من أهم ما يجب معرفته والاعتبار به.
أما معرفته فلكي نعلم التطور التاريخي للظاهرة وخط سيرها، وأما الاعتبار به فلأن البدع قد تبدو صغيرة لكنها تؤول إلى أن تصير كبارا، فيجب الحذر من صغيرها وكبيرها، وإلا فإن الأئمة والعباد من المرجئة الفقهاء لم يدر بخلدهم ما صار إليه جهم، ولم يخرجوا الأعمال من الإيمان إلا لفظا فقط، وأما وجوبها والمعاقبة عليها ووجوب ترك المحظورات فأمر لم يخالفوا فيه قط.
ولهذا عد بعض العلماء الخلاف كله لفظيا، وليس كذلك بإطلاق.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم:
" وهذه الشبهة التي أوقعتهم - يعنى شبهة عدم التعدد والتبعيض في الإيمان - مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه، ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد؛ فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، ولهذا عظم القول في ذم الإرجاء " (١).
وقال أيضا: " والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه (٢)، وعرفوا أن إبليس وفرعون كفار مع تصديق قلوبهم (٣).
لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم " (٤).
وهذا الذي قاله الشيخ قاله من هو أقدم منه؛ كالإمام أبى عبيد القاسم بن سلام، على ما سننقله.
هذا، وبيان الفروق بين مذهب جهم ومذهب المرجئة الفقهاء، وبين هذا ومذهب أهل السنة والجماعة، مما يتضمنه الفصل التالى لهذا، غير أننا لن ندع الحديث عن جهم إلا بعد تنبيه مهم؛ وهو: