للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا جعلوا - وهم لا يشعرون - فلسفة اليونان، وآراء الصابئين والبراهمة، وخرافات المجوس والنصارى تقف موقف الند المنافس لما أنزل الله من الوحي المحفوظ المعصوم!! وبعثوا تلك الرمم الفكرية البالية لتشاطر هدى الله عقول المسلمين وتقاسمه قلوبهم. (١)

وليس هذا فحسب، بل من أخطر نتائج هذا المنهج أنه حطم وحدة التجمع الضخم الذي كان أهل السنة والجماعة يحظون به دون سائر الفرق؛ حيث كانت الفرق الأخرى - كالشيعة والمعتزلة - لا تمثل إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار السنة الكبير.

ولكن هذا المنهج جنى على ذلك جناية كبرى - لا سيما وكثير من رؤوسه ينتسبون للسنة ونصرتها -، فانقسم الرأي وتفسخ الموقف، واستصغرت الأمة خطر ما يدعو إليه هؤلاء، استكبارها له نفسه حين كان دعاته هم أعداء السنة الصرحاء.

حتى جماهير الأمة وعامتها اختلط عليهم الأمر وانقسم الولاء , فما كان لهم من قبل أن يقارنوا بين الكتاب والسنة وبين زندقة الفرس والهنود والصابئين، ولا أن يعتقدوا كون ابن أبي دؤاد وبشر وجهم وغيلان والنظام أعلم بدين الله واتبع للحق وأهدى سبيلا من مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والحسن وسفيان والفضيل.

فلما ظهر المتمسحون بالسنة , المعظمون ظاهرا لأولئك السلف , مؤيدين لأولئك المبتدعة في كثير من أصولهم فتر العداء أو اضمحل، وتشتت الولاء وهاج الرأي بين التجمع السني نفسه!!

وهذا الموقف تجلى بوضوح في المسألة المهمة لنا هنا وهي مسألة الإيمان , وبخاصة " العمل ".

فقد ظهر أصحاب المنهج التوفيقي والخلاف في المسألة دائر بين فريقين:

١ - الأول: الأمة كلها - تقريباً - غير أنها كانت على مذهبين:

أ- الغالبية العظمى: وهم متمسكون بما أجمعت عليه القرون المفضلة، وصرحت به نصوص الوحي القطعية من أن الإيمان قول وعمل - على ما سبق شرحه -.

ب- طائفة معدودة من الفقهاء تتفق مع الأولى في أهمية العمل ووجوبه فضلا عن اتفاقها معها في أن من لم يقر بالإيمان بلسانه أو لم يقم بقلبه شيء من أعماله (كالرضا واليقين والصدق والإخلاص) كافر لا إيمان له، ولكن انقدحت لديهم شبهة في كون الأعمال - أعمال الجوارح - تدخل في مسمى الإيمان، وفهموا خطأ أن القول بزيادته ونقصانه موافق لقول الخوارج، ولهم على ذلك تأويلات وتعللات .. وهؤلاء هم المسمون مرجئة أهل السنة أو مرجئة الفقها.

٢ - الفريق الآخر: غلاة المرجئة، وهم الجهمية - حينئذ - ومن شابههم، ولهم في الإيمان قول اتفقت الأمة على شذوذه وعدم الاعتداد به، وعدم اعتباره في الخلاف، بل أخرجهم أئمة الإسلام الكبار من فرق الأمة الثنتين والسبعين الضالة، وعدوهم أكفر من اليهود والنصارى والمجوس لمسائل ذهبوا إليها منها هذه المسألة. فقد كان مذهبهم في الإيمان أنه مجرد المعرفة بالقلب؛ فكل من عرف الله بقلبه فهو عندهم مؤمن تام الإيمان (٢) أي وإن لم يعمل.

فلما ظهر دعاة المنهج التوفيقي التوسطي وطبقوا منهجهم في التوفيق بين هذه المذاهب , أخذوا من الجهمية أن الإيمان محله القلب وحده وأنه يقع " كاملا " فيه، وأن النطق بالشهادة فضلاً عن سائر الأركان غير داخل فيه وإنما هو شرط ظاهري فقط، أي شرط لإجراء أحكام الإسلام الظاهرة على قائله!!


(١) وهذا هو الأصل الذي نشأت منه أكبر مشكلة منهجية يعاني منها هذا المنهج التركيبى، وهي ما أسموه (تعارض العقل وكيفية العمل عند ذلك)، وهو الذي هدمه شيخ الإسلام بكتابه الفذ: ((موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)) ومفتتحا إياه بذكر رؤوس هذا المنهج وقانونهم في التعارض.
(٢) ولهذا ألزمهم أهل السنة بالقول بإيمان إبليس وفرعون وأهل الكتاب .. وكل من دلت النصوص على أنه يعرف الله بقلبه!!

<<  <  ج: ص:  >  >>