١٦ - نكد القلب وقلقه وضنكه: وهذا ملازم للمعصية ملازمة الظل لأصله، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:١٢٤]، فالمعرض عن ذكر الله متعرض لذلك، لكن قد يتوارى داؤه بسكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك الخمر - كالمشاهد في عصرنا الحاضر من إدمان المسكرات والمخدرات، تخلصا من ضيق الحياة ونكد العيش.
فهذه بعض آثار معاصي الجوارح على القلب وعمله، فهي تذهب رضاه ويقينه وصدقه وإخلاصه وتوكله ومحبته، بل تذهب قوته وحياته وصحته وراحته، وتجمع له بين ذهاب حقائق الإيمان وبين عقوبات آجلة وعاجلة، كما رأينا في هذه الآثار.
وأما أثر أعمال الطاعات بالجوارح في أعمال القلب، فهو ما ينوء بالمجلدات الكبار، وذلك أن هذه هي مادة حياته وقوته وعزيمته، والجوارح هي منافذه وثغوره، وهل في الإمكان استيعاب ما تورثه الصلاة من رضا وطمأنينة وخشوع وإنابة، أو ما يورثه الصوم من يقين وتوكل وإخلاص، أو ما يورثه الجهاد من محبة واستسلام وثبات وهكذا سائر الطاعات، ولذا رأيت أن اختار طاعة واحدة قد لا يحسب لها حساب إلا عند الخاصة من الناس، وهي " غض النظر عن المحرمات ".
وللإمام ابن القيم - أيضا- تفصيل لهذا في الكتاب نفسه، انقل منه ما يتعلق بالقلب خاصة، مع اختصار وإيضاح:
١ - أنه يمنع من وصول أثر السهم والمسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه لأن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس.
٢ - انه يورث القلب آنساً بالله وقرباً منه، فان إطلاق البصر يصرف القلب ويشتته ويبعده عن الله، ويوقع الوحشة بين العبد وربه.
٣ - انه يكسب القلب نوراً - كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر، فقال: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:٣٠]، ثم قال اثر ذلك: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:٣٥] أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما انه إذا اظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فما شئت من بدعة وضلالة، واتباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة، فان ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام.
٤ - انه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه - لكن قد لا يحس بذلك إلا ذو البصيرة.
٥ - انه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل، والصادق والكاذب، فان الله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو جنس عمله، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه، فإذا غض بصره عن محارم الله عوضه الله بان يطلق نور بصيرته عوضا عن حبسه بصره لله، ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة، التي إنما تنال ببصيرة القلب.
وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه، الذي هو ضد البصيرة، فقال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:٧٢]، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل، والعمه الذي هو فساد البصيرة، ثم عقب الله تعالى على قصتهم بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:٧٥]، وفي ذلك إشارة لما تقدم.