للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: فإذا كانت المرجئة تقول: إن الإسلام هو القول؟ قال: هم يصيرون هذا كله واحدا، ويجعلونه مسلما ومؤمنا، شيئا واحدا على إيمان جبريل، ومستكمل الإيمان (١).

وقد علق شيخ الإسلام على ذلك، فقال:

"وأما قوله: يجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا.

فهذا قول من يقول: الدين والإيمان شيء واحد، فالإسلام هو الدين، فيجعلون الإسلام والإيمان شيئا واحدا. وهذا القول قول المرجئة فيما يذكره كثير من الأئمة، كالشافعي، وأبي عبيد، وغيرهما (٢)، ومع هؤلاء يناظرون.

فالمعروف من كلام المرجئة الفرق بين لفظ الدين والإيمان، والفرق بين الإسلام والإيمان.

ويقولون: الإسلام بعضه إيمان، وبعضه أعمال، والأعمال منها فرض ونفل. ولكن كلام السلف كان فيما يظهر لهم، ويصل إليهم من كلام أهل البدع" (٣)، ثم قال بعد استطراد مطول:

"فلهذا ردوا - يعني السلف - على المرجئة الذين يجعلون الدين والإيمان شيئا واحدا، ويقولون: هو القول.

وأيضا فلم يكن حدث في زمنهم من يقول: إن الإيمان هو مجرد القول بلا تصديق ولا معرفة في القلب، فإن هذا إنما أحدثه ابن كرام، ... ، ولم يكن ابن كرام في زمن أحد بن حنبل، وغيره من الأئمة، ... ،وكان قول المرجئة قبله - يعني ابن كرام -: عن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب، وقول جهم: إنه تصديق بالقلب" (٤).

فالنقلان السابقان مع تعليق شيخ الإسلام عليهما يبرزان مذهب فقهاء المرجئة من هذه الألفاظ الثلاثة: الإسلام، والإيمان، والدين، وأنهم في ذلك فريقان: الفريق الأول: يرى أن الإسلام والإيمان والدين شيء واحد، وهو: القول، فمن أتى بذلك، فهو مؤمن تام الإيمان.

وهذا القول هو قول المرجئة الذين ناظرهم عليه بعض الأئمة، وكأن هذا قول قديم لهم، فكما قال شيخ الإسلام أنه لم ير في كتاب أحد منهم من يقول به. وقد نقل رحمه الله ما ذكره ابن حامد من أن أصحاب أبي حنيفة يقولون إن الإسلام والإيمان اسمان معناهما واحد (٥).ونقل عن المروزي أن من قال إن الإيمان هو القول، فلا فرق بينه وبين المرجئة (٦).ونقل أيضا عن أبي طالب المكي أن من قال إن الإيمان هو الإسلام، فإنه يقرب من قول المرجئة (٧).

الفريق الثاني: يرى أن الإسلام والدين شيء واحد، وأنه يتكون من ثلاثة أجزاء: الإيمان جزء، والأعمال المفروضة جزء، والأعمال النافلة جزء. وهؤلاء يقولون إن الإيمان يتضمن الإسلام (٨)، بمعنى أنه يدخل ضمنه، فهو جزء منه. ويقولون أيضا إن الفاسق مؤمن، حيث أخذ ببعض الدين - وهو الإيمان عندهم -، وترك بعضه (٩).

يقول شيخ الإسلام في معرض حديث عن مواقف الفرق من مرتكب الكبيرة، وأن الوعيدية يحكمون بأنه مخلد في النار:

"فقالت الجهمية والمرجئة، قد علمنا أنه لا يخلد في النار، وأنه ليس كافرا مرتدا، بل هو من المسلمين.

وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنا تام الإيمان، ليس معه بعض الإيمان، ... ،وقالت المرجئة: الرجل إذا أسلم كان مؤمنا قبل أن يجب عليه شيء من الأفعال" (١٠).

وكما ذكر شيخ الإسلام أن هذا القول هو المذهب المعروف عن مرجئة الفقهاء، وهو الذي ناظرهم عليه أبو عبيد في كتابه الإيمان. وقد ذكر أيضا رحمه الله أن أبا حنيفة موافق لسائر العلماء في أن المباني الأربعة - الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج - من الإسلام (١١).

فعل هذا يكون أبو حنيفة رحمه الله من هذا الفريق الذين يخرجون العمل من الإيمان، ويجعلونه من الإسلام والدين. وقد جاء في "الفقه الأكبر" أن الإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى (١٢)، وهذا الانقياد لا يكون إلا بالعمل، والله أعلم (١٣).

المصدر:آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص ٣٩٣


(١) انظر: ((الإيمان)) (ص٣٥٦، ٣٦٣) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٧٢ - ٣٨٠)؛ وهو في ((السنة))، للخلال (٣/ ٦٠٤ - ٦٠٥ رقم ١٠٧٧).
(٢) كأبي ثور. انظر: ((الإيمان)) (ص٣٧٣) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٨٩).
(٣) ((الإيمان)) (ص٣٦٤) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٨٠).
(٤) ((الإيمان)) (ص٣٧٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٨٦ – ٣٨٧).
(٥) انظر: ((الإيمان)) (ص٣٥٣) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٦٩).
(٦) انظر: ((الإيمان)) (ص٣٦٢) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٧٩)؛ وانظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (٢/ ٥٣٣).
(٧) انظر: ((الإيمان)) (ص٣١٦) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٣٢)؛ وانظر: ((قوت القلوب)) (٢/ ٢٥٠).
(٨) انظر: ((الإيمان)) (ص١٤٨) ((الفتاوى)) (٧/ ١٥٤).
(٩) انظر: ((الإيمان)) (ص ٣٧٣) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٨٩).
(١٠) ((الفتاوى)) (١٣/ ٥٠).
(١١) انظر: ((الإيمان)) (ص٣٥٤) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٧١).
(١٢) الفقه الأكبر، ضمن مجموع يحوي بعض رسائل أبو حنيفة، علق عليه زاهد الكوثري، الطبعة الأولى ١٤٢١هـ، المكتبة الأزهري للتراث، بمصر، (ص٦٦).
(١٣) وانظر: ((شرح الفقه الأكبر))، للقاري، تحقيق علي ندل، الطبعة الأولى ١٤١٦هـ، دار الكتب العلمية ببيروت، (ص١٤٩ - ١٥٠)، وأصول الدين عند الإمام أبي حنيفة، (ص٤٣٥ - ٤٣٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>