للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالث: أن كون الشيء المركب لم يبق على تركيبه بعد زوال شيء من أجزائه منه لا نزاع فيه بين العقلاء، ولا يدعي عاقل أن الإيمان أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور والمشتملة على أجزاء أنه إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد أن الشجرة المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد أن الشجرة أو الدار إذا بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض أعضائه بقي مجموعاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو ميجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء))، فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء، فدعواهم ِأنه إذا زال بعض المركب زال بعضه الآخر ليس بصواب، وإن كان يسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت.

الرابع: أن المركبات في ذلك على وجهين:

أحدهما: ما يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم عليه.

ثانيهما: ما لا يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم عليه.

ومثال الأول: السكنجبين والعشرة، فإن هذا النوع يزول عنه اسمه عند زوال بعض أجزائه منه، ولا يطلق الاسم إلا على الهيئة المركبة مجتمعة.

ومثال الثاني: جميع المركبات المتشابهة الأجزاء، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء ونحو ذلك.

وكذلك لفظ العبادة والطاعة والخير والحسنة والإحسان والصدقة والعلم ونحو ذلك مما يدخل فيه أمور كثيرة يطلق الاسم على قليلها وكثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض الأجزاء، وكذلك لفظ القرآن فيقال على جميعه وعلى بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمى قرآناً، وكذلك لفظ الذكر والدعاء يقال للقليل والكثير وكذلك لفظ الجبل والنهر والبحر والدار والقرية ونحو ذلك يقال على الجملة المجتمعة، ثم ينقص كثير من أجزائها والاسم بقا.

فإذا كانت المركبات على نوعين، بل غالبها من هذا النوع لم يصح قولهم، أنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم.

الخامس: أن هذا القول مخالف لنصوص الوحي الدالة على أن للإيمان أجزاء وأبعاضاً. مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (١) ومن المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان)) (٢) , فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة.


(١) رواه البخاري (٩) , ومسلم (٣٥) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم.
(٢) رواه الترمذي (٢٥٩٣) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (٢٤٥٠): صحيح على شرط الشيخين.

<<  <  ج: ص:  >  >>