فهذا سبب نشوء البدع بعموم، أما بدعة القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه خاصة فسبب نشأتها يرجع إلى بدعة الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة والحكم بخلوده يوم القيامة في نار جهنم، فإن هذه البدعة جرت وراءها بدعاً، وبيان ذلك أن الخوارج لما قالوا ببدعتهم احتجوا لها بنصوص الوعيد والتهديد، وأهملوا ما يقابلها من نصوص الرجاء والثواب والمغفرة، فقابلتهم طائفة ببدعة أخرى فقالت: عن المعاصي ليس لها تأثير في الإيمان فالإيمان لا يضر معه ذنب كما أن الكفر لا ينفع معه طاعة، واحتجوا لقولهم هذا بنصوص الوعد والرجاء، وأهملوا نصوص الوعيد كلها فقابلوا بدعة الخوارج ببدعة مثلها.
فجاءت المعتزلة وتوسطوا في الأمر حسب ظنهم فقالوا: إن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان لكنه لا يدخل في الكفر بل يكون في منزلة بين المنزلتين، أي بين منزلة الكفر ومنزلة الإيمان في الدنيا فأحدثوا بذلك بدعة ثالثة مع موافقتهم للخوارج في الحكم عليه بالخلود في النار.
فالمرجئة جعلوه في منزلة الإيمان الكامل، والخوارج جعلوه في منزلة الكفر الكامل والمعتزلة لم يجعلوه لا في الكفر ولا في الإيمان، فهذه ثلاث بدع.
والحقيقة أن هذه البدع الثلاث عائدة إلى اعتقاد الجميع أي الخوارج والمعتزلة والمرجئة أنه لا يجتمع مع الإيمان شيء من شعب الكفر أو شعب النفاق فإن وجد شيء من ذلك انتفى الإيمان كله عند الجميع.
قال شيخ الإسلام:"والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد أن من كان مؤماً لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع فهذا كان أصل الإرجاء ... فلما كان هذا أصلهم صاروا حزبين. قالت الخوارج والمعتزلة قد علمنا يقيناً أن الأعمال من الإيمان فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون في العبد إيمان ونفاق فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء .. إلى أن قال: فقالت الجهمية والمرجئة، قد علمنا أنه ليس يخلد في النار أي مرتكب الكبيرة - وأنه ليس كافراً مرتداً بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤناً تام الإيمان، ليس معه بضع الإيمان لأن الإيمان عندهم لا يتبعض فاحتاجوا أن يجعلوا الإيمان شيئاً واحداً يشترك فيه جميع أهل القبلة"(١).
أما كون الإيمان لا يجتمع معه شيء من شعب الكفر أو النفاق، فقد سبق أن أبطلته مستدلاً على إبطاله بنصوص كثيرة، وكذلك جعل بطلانه. وأما عن موقف أهل السنة والجماعة من هذه المواقف الثلاثة أي من موقف الخوارج والمعتزلة، والمرجئة فيتلخص في: "أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنى والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام.