للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكيف يكون الخلاف لفظياً وقولهم هذا يؤدي إلى إضعاف الإيمان، وعدم الاكتراث بأموره، والتهوين من شأن زيادته وقوته، فإن العلماء إذا قالوا للناس إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأهله متساوون فيه، وإيمان جبريل والأنبياء وإيمان أفجر الناس واحد، ولا تفاضل بين الناس في الإيمان فهل ينتظر بعد ذلك من الناس الإقبال على أمور الإيمان ومتطلباته علماً وعملاً، لا إخال ذلك يحصل البتة.

ولهذا يقول المعلمي رحمه الله تعالى في رده على الكوثري: "وهذا القول - أي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الإيمان - قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري إنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان عمل، ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات.

بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة، أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح، وأما من عرف يكفي لإنكار القول أنه مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يتقدي بأبي حنيفة ولا يعلم قوله أن أهل المعاصي يعذبون فيغتر بذلك، وقد يبلغ بعضهم قولاه معاً فلا يلتفتون إلى الثاني بل يقولون: رأس الأمر الإيمان، فإذا كان إيمان الفجار مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب، وقد دلت النصوص على أن المؤمنين لا يعذبون؟! ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، يقول أحدهم لم أعذب نفسي في الدنيا بما لا يزيد في إيماني شيئاً، حسبي أن إيماني مساو لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين، قائلين: أعظم ما عندهم الإيمان، وأفجر الفجار مساو لهم فيه!

وإذا كان أبو حنيفة كما يقول الكوثري يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعض الناس فيقول: إذا كنت لا أصير مؤمناً إلا بأن يكون يقيني مساوياً ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام فهذا ما لا يكون، ففيم إذا أعذب نفسي بالأعمال فأجمع عليها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟! وبعد فيكفي مبرراً لإنكار ذاك القول مخالفته للنصوص الشرعية" (١).

قلت: وليتأمل كلامه رحمه الله فهو يدل على علم جم، وفهم ثاقب، ومعالجات حكيمة، أسكن الله قائله فراديس جناته. ولهذا صرح بعض محققي هؤلاء بأن الخلاف في المسألة جوهري وليس لفظياً، كما سبق النقل عن بعضهم في ذلك، مثل النووي والألوسي وغيرهما، حتى إن الألوسي رحمه الله قال: "والحق أن الخلاف حقيقي، وأن التصديق يقبل التفاوت ... وما على إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه، للأدلة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالإتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام" (٢).

ثم كيف يكون الخلاف لفظياً وقد كفر بعض هؤلاء من قال إن الإيمان يزيد وينقص وبدعوه، وحرموا تزويجه، وتجرأوا بذلك على صدر هذه الأمة من صحابة وتابعين الخيار العدول، فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه قولهم، والكتاب والسنة هو مستندهم فيه، فهل يجرؤ على تبديع هؤلاء فضلاً عن تكفيرهم إلا من سفه نفسه وحكم بغيهاظ؟!

ولئن عد الخلاف مع بعض هؤلاء لفظياً - تجوزاص - لخفه غلطهم عن غيرهم ممن زاد في الغلو وأوغل في الضلال، فإنه لا يعد كذلك بأي حال من الأحوال ولا أي وجه من الوجوه مع أولئك الذين أوغلوا في الضلال فكفروا من قال إن الإيمان يزيد وينقص وبدعوه، وكذبوا في ذلك أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقحموا أموراً عظاماً، ورزاياً جساماً، وهم كثر.


(١) ((التنكيل)) (٢/ ٣٦٥).
(٢) ((روح المعاني)) (٩/ ١٦٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>