للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثل هذا ما رواه اللالكائي بإسناده عن يعقوب بن سفيان: أنه قال: "الإيمان عند أهل السنة: الإخلاص لله بالقلوب والألسنة والجوارح، وهو قول وعمل يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة".

ثم سمى اثنين وثلاثين رجلاً منهم ثم قال: "كلهم يقولون: الإيمان القول والعمل، ويطعنون على المرجئة وينكرون قولهم".

فإذا كان إنكار السلف لهذا الأمر بهذه الشدة والكثرة، فهل يقال بعد ذلك إن هذا القول من بدع الألفاظ ومن المخالفات اللفظية فحسب، مع العلم أن النزاع في الأمور اللفظية ليس من دأب المحصلين فضلاً عن هؤلاء الجهابذة والأئمة من السلف الأولين.

وهل يكون هذا القول من بدع الألفاظ، رغم أن السلف أنكروه بتلك الشدة وامتلأت كتب السنة بالنقول الكثيرة عنهم وهم يصرحون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، حتى إنه ليحصى عدد من قال ذلك بالألوف، مظهرين بذلك النكير على من قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فهل كل ذلك الإنكار، وكل تلك الشدة لأمر يعد من بدع الألفاظ.

وعليه فإني أقطع بلا تردد بأن هذا القول بدعة محدثة، والبدع كلها ضلال، وأقطع بأن من خالف في ذلك فقد خالف في أمر جوهري أساسي، ينكر عليه، ولا يتهاود معه، حتى يعود إلى الحق والصواب، وهذا من النصيحة له، حتى تبقى رابطة الأخوة الإيمانية وعلائق المحبة الصادقة، المبنية على طاعة الله تعالى، وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبهذه المناسبة أقول: إني لأعجب كثيراً من الناس في زماننا هذا تصدوا للدعوة إلى الله، وبذلوا جهودهم وأوقاتهم لها، يقفون من أمور العقيدة ومسائلها مواقف مخذولة، فيميعون مسائلها ويهونون من شأن المخالفة فيها، ويعدون المخالفين لأهل السنة في أمور من صلب الاعتقاد وجوهره، مخالفين في أمور شكلية لفظية، طالما أنهم يشهدون بكلمة التوحيد ويقرون بالرسالة في الجملة بغض النظر عن التفاصيل.

وليس هذا فحسب بل يقررون في ذلك قواعد كلية يبنون عليها مناهجهم ويحتكمون إليها في أمورهم، وأيم الله إنها لقواعد جائزة ما أنزل الله بها من سلطان، ومن هذه القواعد تلك القاعدة المشهورة، والتي تبنتها جماعة كبيرة متصدية للدعوة في عصرنا الحاضر، تلكم القاعدة هي قولهم:

"نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلف فيه".

والحق يقال: إن هذه القاعدة تحمل في طياتها خطراً عظيماً، وضرراً جسماً ينبغي الحذر والتحذير منه، حيث أنها تعني السكوت عن أهل البدع والأهواء، وعدم مصارمتهم ومعاداتهم وبغضهم، بل تعني أنهم يحبون ويوالون ويجالسون ويعاملون معاملة أهل السنة سواء، فمواضع الخلاف بيننا وبينهم نعذرهم فيها على حد تعبير هذه القاعدة، ومن ثم لا نعلن النكير عليهم ولا ننبه المسلمين على خطرهم وضررهم.

وعندئذ لا تسأل عن نشاط أهل البدع في نشر بدعهم وترويج باطلهم، إذ الطريق أمامهم سالكة، فليس هناك من ينكر أو يعكر عليهم نشاطهم، فينشرون باطلهم ويسعون في الأرض بالفساد، بكل راحة نفس وطمأنينة قلب، ونفوس أهل هذه القاعدة المنشرحة لهم فيقابلون هؤلاء بطلاقة الوجه، ورحابة الصدر، وحسن المعاملة، ثم يزعمون أن فعلهم هذا من الحكمة في الدعوة إلى الله!! "ومعاذ الله أن تكون الدعوة على سنن الإسلام مظلة يدخل تحتها أي من أهل البدع والأهواء، فيغض النظر عن بدعهم وأهوائهم على حساب الدعوة" (١).

والحق أن هؤلاء مكر الشيطان بهم بخفاء، ودبر أمرهم بدهاء، فأوقعهم في الإساءة من حيث أرادوا الإحسان، قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بين أن هذا مدخل من مداخل الشيطان على أهل السنة والإيمان:" .... ومن ههنا وصى أطباء القلوب الإعراض عن أهل البدع، وأن لا يسلم عليهم، ولا يريهم طلاقة وجهه، ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض" (٢).

ثم إنه نتيجة لحكمة هؤلاء المزعومة، أطل أهل الأهواء برؤوسهم، وشمخوا بأنوفهم، وصاروا يمكرون بالسنة وأهلها علناً وجهراً، من بعد ما كانوا يكيدون لها في السر والخفاء، مع الخوف والوجل، فكل هذا وغيره إنما حصل بسبب مثل هذه المواقف المخذولة، والآراء المهزوزة والله وحده المستعان.

المصدر:زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص ٤٤١


(١) ((حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية)) للشيخ بكر أبو زيد (ص ١٥٣).
(٢) ((إغاثة اللهفان)) (١/ ١٤٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>