قالوا: وشرط المشيئة الذي يترجاه القائل لا يتحقق حصوله إلى يوم القيامة، فإذا علق العزم بالفعل على التصديق والإقرار، فقد ظهرت المشيئة، وصح العقد، فلا معنى للاستثناء.
ولأن الاستثناء عقيب الكلام يرفع الكلام، فلا يبقى الإقرار بالإيمان والعقد مؤمنا، وربما يتوهم هذا القائل القارن بالاستثناء على الإيمان بقاء التصديق، وذلك يزيله.
قلت: فتعليلهم في المسألة إنما يتوجه فيمن يعلق إنشاء الإيمان على المشيئة، كالذي يريد الدخول في الإسلام، فيقال له: آمن، فيقول: أنا أؤمن إن شاء الله، أو: آمنت إن شاء الله، أو: أسلمت إن شاء الله، أو: أشهد إن شاء الله أن لا إله إلا الله، وأشهد إن شاء الله أن محمدا رسول الله.
والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء، وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان"، ثم ذكر رحمه الله دوافع الاستثناء عند من استثنى، وتقدم بيانها، ثم قال:
"وأما الإنشاء فلم يستثن فيه أحد، ولا شرع الاستثناء فيه، بل كل من آمن وأسلم، آمن وأسلم جزما بلا تعليق.
فتبين أن النزاع في المسألة قد يكون لفظيا، فإن الذي حرمه هؤلاء، غير الذي استحسنه وأمر به أولئك"، ثم قال شيخ الإسلام:
"وما أعرف أحدا أنشأ الإيمان، فعلقه على المشيئة، فإذا علقه:
فإن كان مقصوده أنا مؤمن إن شاء الله: أنا أؤمن بعد ذلك، فهذا لم يصر مؤمنا.
مثل الذي يقال له: هل تصير من أهل دين الإسلام؟
فقال: أصير إن شاء الله، فهذا لم يسلم، بل هو باق على الكفر.
وإن كان قصده: أني قد آمنت، وإيماني بمشيئة الله، صار مؤمنا.
لكن إطلاق اللفظ يحتمل هذا وهذا، فلا يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ في الإنشاء.
وأيضا، فإن الأصل أنه إنما يعلق بالمشيئة ما كان مستقبلا، فأما الماضي، والحاضر، فلا يعلق بالمشيئة.
والذين استثنوا لم يستثنوا في الإنشاء كما تقدم، كيف، وقد أمروا أن يقولوا: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ [البقرة: ١٣٦]، وقال تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [البقرة: ٢٨٥]، فأخبر أنهم آمنوا، فوقع الإيمان منهم قطعا بلا استثناء.
وعلى كل أحد أن يقول: آمنا بالله وما أنزل إلينا، كما أمر الله بلا استثناء، وهذا متفق عليه بين المسلمين، ما استثنى قط أحد من السلف في مثل هذا.
وإنما الكلام إذا أخبر عن نفسه بأنه مؤمن، كما يخبر عن نفسه بأنه بر، تقي".
ثم ذكر رحمه الله أن هذا أحد مآخذ السلف في الاستثناء، وذكر المآخذ الأخرى لهم، ثم ختم جوابه بقوله:"والمقصود هنا أن النزاع في هذا كان بين أهل العلم والدين من جنس المنازعة في كثير من الأحكام، وكلهم من أهل الإيمان والقرآن" (١).
(١) ((الفتاوى)) (١٣/ ٤٢ - ٤٧) باختصار.