للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، يعنون بهذا الاستثناء تفويض الأمر في (المستقبل) والعاقبة إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما يكون الإيمان إيمانا معتدا به في حكم الله إذا كان ذلك علم الفوز وآية النجاة، وإذا كان صاحبه والعياذ بالله في حكم الله من الأشقياء، يكون إيمانه الذي تحلى به في الحال عارية. قال - يعني الأنصاري -: ولا فرق عند الصائرين إلى هذا المذهب بين أن يقول: أنا مؤمن من أهل الجنة قطعا، وبين أن يقول: أنا مؤمن حقا" (١).

ثم ذكر الأنصاري أن من ذهب إلى هذا القول "يتمسك بأشياء منها أن يقال: إن الإيمان عبادة العمر، وهو كطاعة واحدة، فيتوقف صحة أولها على سلامة آخرها، كما تقول في الصلاة والصيام والحج.

(وقد قال ابن مسعود: لو قلت إني مؤمن حقا، لقلت إني من أهل الجنة حقا).

قالوا: ولا شك أنه لا يسمى في الحال وليا، ولا سعيدا، ولا مرضيا عند الله. وكذلك الكافر لا يسمى في الحال عدوا لله، ولا شقيا، إلا على معنى أنه تجري عليه أحكام الأعداء في الحال؛ لإظهاره من نفسه علامتهم" (٢).

وقال شيخ الإسلام: "والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان:

أحدهما: أن الإيمان ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به.

قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافرا ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب.

وصاحب هذا هو عند الله كافر؛ لعلمه بما يموت عليه، وكذلك قالوا في الكفر. وهذا المأخذ هو مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة والحديث من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود، وإنما يشك في المستقبل" (٣).

الفريق الثاني من الأشاعرة: لم يجعل الموافاة شرطا في كون الإيمان إيمانا حقيقيا في الحال، بل شرطا في استحقاق الثواب عليه، وعلى هذا فهم يستثنون في المآل لا الحال. وإلى هذا ذهب كثير من الأشاعرة، وخالفوا شيخهم الأشعري في هذه المسألة (٤)، وممن قال بهذا القول الباقلاني، والجويني، وأبو إسحاق الاسفراييني، يقول الأنصاري: "ومن أصحابنا من لم يجعل الموافاة على الإيمان شرطا في كونه إيمانا حقيقيا في الحال، وإن جعل ذلك شرطا في استحقاق الثواب عليه.

وهذا مذهب المعتزلة، والكرامية، وهو اختيار أبي إسحاق الاسفراييني، وكلام القاضي يدل عليه. قال: وهو اختيار شيخنا أبي المعالي، فإنه قال: الإيمان ثابت في الحال قطعا لا شك فيه، ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به، وقرنوه بالاستثناء، ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز (٥).


(١) ((الإيمان)) (ص٤١٧ - ٤١٨) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٣٧ - ٤٣٨)؛ وهو في: ((شرح الإرشاد)) ٢٨٠/أ.
(٢) ((شرح الإرشاد)) (٢٨٠/ب)؛ وهو في ((الإيمان)) (ص٤٢١) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٤١).
(٣) ((الإيمان)) (ص٤١٠ - ٤١١) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٢٩ - ٤٣٠)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (١١/ ٦٢ - ٦٤)، (١٦/ ٥٨١ - ٥٨٢)؛ وقد قال بهذا أيضا أبو يعلى. انظر ((الفتاوى)) (٧/ ٦٦٧)؛ و ((مختصر المعتمد الملحق بمسائل الإيمان)) (ص٤٤١ - ٤٤٧، ٤٥١).
(٤) انظر: ((الإيمان)) (ص١١٥) ((الفتاوى)) (٧/ ١٢٠).
(٥) انتهى كلام الجويني، وهو في كتابه: ((الإرشاد))، (ص٣٣٦)؛ وانظر: ((الإنصاف))، للباقلاني، (ص٩١).

<<  <  ج: ص:  >  >>