للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا ملخص مذهب الفريقين في الوعد والوعيد، ويهمنا هنا مناقشة مذهب هؤلاء غلاة المرجئة، ويمكن ترتيب ذلك فيما يلي: أولاص: بينما الوعيدية غلوا، فأدخلوا العصاة في نصوص الوعيد، وأخرجوهم من نصوص الوعد، عارضتهم غلاة المرجئة، فقصروا حين أدخلوهم في نصوص الوعد، وأخرجوهم من نصوص الوعيد، فهما مذهبان متقابلان يدوران بين الإفراط والتفريط، ورحم الله شيخ الإسلام عندما قال: "ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ونصوص الكتاب والسنة، مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر من يعذب، وأنه لا يبقى في النار من في قلبه مثالة ذرة من إيمان" (١).

ثانياً: في إنكار غلاة المرجئة للعموم يقول شيخ الإسلام:"ومن أهل المرجئة من ضاق عظمته لما ناظره الوعيدية بعموم آيات الوعيد وأحاديثه؛ فاضطره ذلك إلى أن جحد العموم في اللغة والشرع، فكانوا فيما فروا منه إلى من هذا الجحد، كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولو اهتدوا للجواب السديد للوعيدية: من أن الوعيد في آية، وإن كان عاما مطلقا، فقد خصص وقيد في آية أخرى، جريا على السنن المستقيمة أولى بجواز العفو عن المتوعد وإن كان متعينا، تقييدا للوعيد المطلق" (٢).وقد تقدم تفصيل مطول لمعنى هذه الجملة، وأنه لا يحتاج الأمر في رد مقالة الوعيدية إنكار العموم كما وقعت فيه هذه الشرذمة (٣)، فإن ذلك يستلزم تعطيل نصوص الوعد والوعيد، فلا تبقى خاصة ولا عامة (٤).

والوجه الحق في فقه الجمع بين هذه النصوص هو أنها نصوص مطلقة عامة، وأنها أسباب لحصول مقتضاها على المعين، لكن هذا العموم مخصص بنصوص أخرى بينت أن المعين لا يلحقه عموم هذه النصوص وإطلاقها إلا إذا توفرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع.

ثالثاً: توقف هؤلاء في عصاة الموحدين، منقوض بتظافر النصوص على خلافه، إذا إنها دلت على قبول الله تعالى توبة من تاب من عباده، وكذلك دلت على أن من العصاة من سيدخل النار قطعا، ومنهم من يغفر له.

يقول شيخ الإسلام: "في قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الزمر: ٥٣ - ٥٥].

قد ذكرنا في غير هذا الموضع أن هذه الآية في حق التائبين، وأما آية النساء، وهي قوله: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: ٤٨]، فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضا بنصوص القرآن، واتفاق المسلمين.

وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق.

هذه خص فيها الشرك بأنه لا يغفره، وما عداه لم يجزم بمغفرته، بل علقه بالمشيئة، فقال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: ٤٨].

وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية - يعني آية النساء - كما ترد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة.

فهي ترد أيضا على المرجئة الواقفية الذين يقولون: يجوز أن يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع.


(١) ((الفتاوى)) (١٨/ ١٩١ - ١٩٢).
(٢) ((الفتاوى)) (٦/ ٤٤١).
(٣) كما وصفهم بذلك شيخ الإسلام في: ((الفتاوى)) (١٢/ ٤٨٢).
(٤) انظر: ((منهاج السنة)) (٥/ ٢٩٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>