للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كانت الأعراض تستلزم محلاً تقوم به، فإن الإرادة تستلزم محلاً تقوم به كسائر الأعراض، وعليه فإن القول بأن الله مريد بإرادة لا في محل باطل. الثاني: أن ذوات الحيوانات تصلح عليها صفة المريدية، فلو جوزت إرادة لا في محل لكانت نسبة تلك الإرادة إلى ذات الله تعالى كنسبتها إلى سائر الذوات فوجب: أن توجب صفة المريدية لكل من يصلح أن يكون مريداً لعدم الاختصاص، فيلزم أن يكون كل ما يريده الله تعالى يريده كل الأحياء وذلك باطل فما يؤدي إليه مثله من القول بحدوث الإرادة لا في محل (١).

الثالث: يلزم على قولكم "الله مريد بإرادة لا في محل "أن يكون الله تعالى مريداً بإرادة قائمة لا في ذاته، ولو جاز أن يكون تعالى مريد بإرادة قائمة لا في ذاته لجاز أن يكون عالماً بعلم قائم لا في ذاته، وقادر بقدرة قائمة لا في ذاته إلى غير ذلك من الصفات، وهذا لا تقولون به، ولجاز أيضاً أن يكون الواحد منا علاماً وقادراً بعلم قائم لا في ذاته وقدرة قائمة لا في ذاته، وهذا مما لا تقولون به أيضاً والتحكم بالفرق من غير دليل مما لا سبيل إليه. وهذه اللوازم معلوم بطلانها بالضرورة؛ بل أنتم لا توافقون عليها، وإذا كانت هذه اللوازم باطلة بطل ما يؤدي إليها من القول بأن الله مريد بإرادة ... لا في محل (٢).الرابع: يقال لهم من رأيكم أن المتماثلين يجب اشتراكهما في الواجبات والجائزات وما يستحيل، ثم أوجبتم لإرادتنا القيام بالمحال، فلماذا لم تلتزموا ذلك في إرادة الباري تعالى (٣)؟!.ثم أنه لو لم تكن الإرادة قائمة به تعالى فقول القائل مريد بها هجر من الكلام كقوله: مريد بإرادة قائمة في غيره (٤)!.

وبما ذكرنا يظهر بطلان قول المعتزلة "الله مريد بإرادة حادثة لا في محل" ويتبين أن إرادته تعالى أزلية قائمة في ذاته تعالى. والله أعلم.

الرأي الثاني: رأي النظام والكعبي ومن تبعهما في الإرادة: ذكرنا أن البصريين من المعتزلة يرون: أن الله مريد بإرادة حادثة لا في محل، إلا أنه وجد من المعتزلة من ينفي الإرادة عن الله أصلاً، وذلك كالنظام والكعبي اللذين قالا: إن الله تعالى غير مريد على الحقيقة وأنه لا يوصف بها إلا مجازاً، فإذا قلنا أن الله تعالى مريد في الأزل، فمعناه أنه عالم قادر غير مكره على فعله، ولا كاره له، وإذا قلنا: أنه مريد لأفعاله؛ فالمراد أنه خالقها ومنشئها على وفق علمه، وإذا قلنا أنه مريد لأفعال عباده، فالمعنى أنه آمر بها (٥).يقول القاضي عبدالجبار: "وقال إبراهيم النظام: إن إرادة الله تعالى إنما هي فعله أو أمره أو حكمه" (٦).يقول في موضع آخر: "والمحكي عن شيخنا أبي الهذيل - رحمه الله - أن إرادة الله غير المراد، فإرادته لما خلقه هي خلقه له ... وإرادته لطاعات العباد؛ هي أمرهم بها" (٧).وقال في موضع ثالث: "وقال الجاحظ: إنه تعالى مريد بمعنى أن السهو منه في أفعاله، والجهل بها لا يجوز عليه ... " (٨).

المناقشة: أولاً: يقال لهم: إذا زعمتم أنه قد كان في سلطان الله - عز وجل - الكفر والعصيان، وهو لا يريدها، وأراد أن يؤمن الخلق أجمعون، فلم يؤمنوا فقد وجب على قولكم أن أكثر ما شاء الله أن يكون لم يكن، وأكثر ما شاء الله أن لا يكون كان، لأن الكفر الذي كان وهو لا يشاؤه تعالى - عندكم - أكثر من الإيمان الذي كان وهو يشاؤه؛ وعلى هذا فأكثر ما شاء الله أن يكون لم يكن، وهذا جحد لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله أن يكون كان، وما لم يشأ لا يكون (٩).ثانياً: يلزم على قولكم بنفي الإرادة أن تكون الأفعال غير اختيارية شبيهة بالأفعال الطبيعية عند أهل الطبائع، وهذا باطل فما يؤدي إليه مثله (١٠).

ثالثاً: يلزم من نفي الإرادة عن الله تعالى وصفه بالعجز، وهو صفة نقص تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ووصف الله بالنقص باطل، فما يؤدي إليه مثله.

رابعاً: يلزمكم مع كل ما ذكرنا ما لزم نفاة الصفات من الردود، وقد سبق بيان ذلك عند الرد على المعتزلة في موقفهم من الصفات عامة. والله أعلم، وهو ولي التوفيق.

المصدر:المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص ١٠٣


(١) انظر: ((الأربعين في أصول الدين)) (ص١٥٤)، و ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص٥٩).
(٢) انظر ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص٥٩)، و ((شرح العقائد النسفية)) (ص٦٩، ٧٠).
(٣) انظر ((الإرشاد)) (ص٩٥).
(٤) انظر ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص١٠٦).
(٥) ((الفرق بين الفرق)) (ص١٨٢)، و ((نهاية الإقدام)) (ص٢٣٨)، و ((أصول الدين)) (ص٩٠)، و ((الملل والنحل)) (١/ ٧٣) "بتصرف".
(٦) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (٦/ ٤).
(٧) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (٦/ ٤).
(٨) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (٦/ ٥).
(٩) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص١٦٣)، و ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص١٠٨)، بتصرف.
(١٠) ((نهاية الإقدام)) (ص٢٤٥)، بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>