للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقال لهم: إن تمسككم بهذه الآية على زعم أن القرآن شيء فيكون داخلاً في عموم كل، فيكون مخلوقاً لمن أعجب العجب!؛ وذلك أن أفعال العباد كلها عندكم غير مخلوق لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها لا يخلقها الله، فأخرجتموها من عموم "كل"، وأدخلتم كلام الله في عمومها، مع أنه صفة من صفاته، به تكون الأشياء المخلوقة؛ إذ بأمره تكون المخلوقات. قال تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ .... [الأعراف: ٥٤]. ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقاً، للزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر، إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل؛ وهو باطل. وطرد باطلكم أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة، كالعلم والقدرة، وغيرهما؛ وذلك صريح الكفر، فإن علمه شيء، وقدرته شيء ... فيدخل ذلك في عموم "كل"، فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن، تعالى الله عما تقولون علواً كبيراً.

وأيضاً كيف يصح أن يكون الله متكلماً بكلام يقوم بغيره، ولو صح ذلك؛ للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه، وكذلك - أيضا - ما خلقه في الحيوانات؛ وألا يفرق بين نطق وأنطق ... بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره زوراً كان أو كذباً - تعالى الله عن ذلك -. ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره؛ لصح أن يقال للبصير أعمى والعكس؛ ولصح أن يوصف تعالى بالصفات التي خلقها في غيره من الألوان غيرها.

أما تمسككم بعموم "كل" فإن عمومها في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن، ألم ترى ... قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: ٢٥]. ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح؟؛ وذلك لأن المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة، وما يستحق التدمير. وكذلك قوله تعالى - حكاية عن بلقيس-: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ... [النمل: ٢٣]. والمراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام. وعلى ذلك؛ فالمراد من قوله تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ... [الرعد: ١٦]. أي: كل شيء مخلوق، وكل موجود سوى الله، فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى وصفاته، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه (١) ...

وبما أن القرآن كلام الله، وكلامه تعالى صفة من صفاته. إذاً القرآن ليس داخلاً في عموم الآية، فهو ليس مخلوقاً؛ وبذلك يبطل استدلالكم بهذه الآية. والله أعلم.

الشبهة الثانية:

قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا .... [الزخرف: ٣].

وجه الدلالة: يقول القاضي: "وقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣] يوجب حدوثه، لأن الجعل والفعل سواء في الحقيقة ... فدل ذلك على حدوث القرآن" (٢).ويقول الزمخشري: " ... إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣] أي: خلقناه عربياً غير عجمي إرادة أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا لولا فصلت آياته ... " (٣).

الجواب عن هذه الشبهة: إن استدلال المعتزلة بهذه الآية باطل. من وجوه، منها:-


(١) ((شرح الطحاوية)) (ص١٨٣ - ١٨٦)، وانظر ((فتاوى ابن تيمية)) (٥/ ٥٤).
(٢) ((المغني في أبواب العدل والتوحيد)) (٧/ ٩٤).
(٣) ((الكشاف)) للزمخشري (٣/ ٤٧٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>