للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجواب عن هذه الشبهة: يقال لهم: إن تمسككم بهذه الآية على أن القرآن مخلوق باطل. وذلك أن دلالة الآية على نقيض قولكم أقوى منها على قولكم؛ فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث، وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولكم؛ ثم إن الحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاحكم، فإن العرب يسمون ما تجدد حادثاً، وما تقدم على غيره قديماً؛ وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى: ... كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: ٣٩]. ولما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم- لا يعلمه ثم علمه الله إياه كان بالنسبة إليه محدثاً وكذلك من سوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمته يعتبر محدثاً إليهم فهو كقول القائل: حدث اليوم عندنا ضيف، ومعلوم أن الضيف كان موجوداً قبل ذلك، فالحدوث في الآية؛ إنما هو إشارة إلى أن القرآن محدث الإتيان، لا محدث العين (١).يقول القرطبي - عن تفسير الآية-: " مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ ... الآية [الأنبياء: ٢] المراد به في النزول وتلاوة جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزله الله تعالى في وقت بعد وقت لا أن القرآن مخلوق" (٢). وإذا كان الحدوث في الآية المراد به حدوث الإتيان، بطل استدلالكم بهذه الآية. والله أعلم.

الشبهة الخامسة: يقول القاضي: "لو كان الله تعالى متكلماً لذاته؛ لكان يجب أن يكون قائلاً فيما لم يزل إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ .... الآية [نوح: ١]؛ وإن لم يكن قد أرسل وأهلك عادا وثمودا وإن لم يكن قد أهلك ... " (٣).ويروي الرازي هذه الشبهة فيقول: "والشبهة الثانية: أنه سبحانه وتعالى أخبر بلفظ الماضي في مواضع كثيرة من القرآن، كقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا ... [نوح: ١] ... فلو كان الإخبار قديما كان هذا الإخبار قديماً أزلياً، لكان قد أخبر في الأزل عن شيء مضى قبله، وهذا يقتضي أن يكون الأزل مسبوقاً بغيره، وأن يكون كلام الله تعالى كذباً، ولما كان كل واحد منهما محاولاً علمنا أن هذا الإخبار يمتنع كونه أزلياً" (٤).

الجواب عن هذه الشبهة: يقال لهم: أولاً: معلوم أنه تعالى كان عالماً في الأزل بأنه سيخلق العالم، ثم لما خلقه صار العلم متعلقاً بأنه قد خلقه في الماضي، ولما لم يقتضي هذا حدوث العلم وتغيره، فكذلك الخبر (٥). وبهذا يتبين: بطلان هذه الشبهة.

ثانيا: على فرض صحة هذه الشبهة، فإنها تلزمنا لو قلنا: أن كلام الله قديم الآحاد، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول: كلام الله قديم النوع حادث الآحاد. وبذلك يتبين فساد شبهتكم؛ وعلى فرض صحتها؛ فإنها لا تلزمنا. والله أعلم.

الشبهة السادسة: يقول القاضي: "إن العدم مستحيل على القديم تعالى، فلو كان الكلام قديماً؛ لما جاز أن يعدم ... " (٦).ويقول الرازي - وهو يروي هذه الشبهة -: "إن كلام الله تعالى لو كان قديماً أزلياً لكان باقياً أبدياً، لأن ما ثبت قدمه يمتنع عدمه، فيكون قوله تعالى لزيد صل صلاة الصبح باقياً بعد أن صلى زيد صلاة الصبح وبعد أن مات، وبعد أن قامت القيامة، وهكذا يكون باقياً أبد الآباد ... ومعلوم أن ذلك على خلاف المعقول، فإنه تعالى إذا أمر عبده بفعل من الأفعال أتى ذلك العبد بذلك الفعل لم يبق ذلك الأمر متوجهاً إليه، وإذا ثبت أن ذلك الأمر قد زال ثبت أنه كان محدثاً لا قديماً" (٧).

الجواب عن هذه الشبهة: لقد أجاب الرازي على هذه الشبهة فقال: "والجواب عن هذه الشبهة؛ هو أن قدرته تعالى كانت متعلقة من الأزل إلى الأبد بإيجاد العالم، فلما أوجد العالم لم يبق ذلك التعلق، لأن إيجاد الموجود محال، فقد زال هذا التعلق، فلما لم يقتض ذلك حدوث قدرة الله تعالى، فكذلك القول في الكلام" (٨).

وبهذا يتبين بطلان هذه الشبهة.

المصدر:المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص ١١٦


(١) انظر ((محاسن التأويل)) (١١/ ٤٢٤٦)، و ((منهاج السنة النبوية)) (٢/ ١٨٩).
(٢) ((تفسير القرطبي)) (١١/ ٢٦٧).
(٣) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٥٥٤).
(٤) ((الأربعين)) للرازي (ص١٨٣).
(٥) ((الأربعين)) للرازي (ص١٨٤)، بتصرف.
(٦) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٥٤٩ - ٥٥٠).
(٧) ((الأربعين في أصول الدين)) (ص١٨٣).
(٨) ((الأربعين في أصول الدين)) (ص١٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>