للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما يؤيد العموم أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت قول ابن عباس في أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج تمسكت في نصرة ما ذهبت إليه بهذه الآية ولو لم تكن هذه الآية مفيدة للعموم بالنسبة إلى كل الأشخاص وكل الأحوال لما تم ذلك الاستدلال، ولا شك أنها من أكثر الناس علما بلغة العرب، فثبت أن هذه الآية دالة على النفي بالنسبة إلى كل الأشخاص وذلك يفيد المطلوب. وأيضا "إن الباري تعالى تمدح بكونه لا يرى، حيث إن قوله: " لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وقعت في أثناء المدائح فإن ما قبلها مشتمل على المدح والثناء، وقوله بعدها وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: ١٠٣] أيضا مدح وثناء، فيجب أن يكون قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: ١٠٣] مدحا وثناء، وذلك يوجب الركاكة، وهي غير لائقة بكلام الله تعالى وتقدس، وحينئذ نقول: إن كل ما كان عدمه مدحا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصا في حق الله تعالى، والنقص على الله تعالى محال، لقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] وقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: ١١] وقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: ٣] إلى غير ذلك، فوجب أن يقال كونه تعالى مرئيا محال (١).

وقد أطال القاضي عبد الجبار في تقرير هذا الدليل وفرض الاعتراضات والرد عليها فقال بعد تقرير وجه الدلالة:

فإن قيل: ولو قلتم إن الإدراك إذا اقترن بالبصر لم يحتمل إلا الرؤية؟

قلنا: لأن الرائي ليس بكونه رائيا حالة زائدة على كونه مدركا، لأنه لو كان أمرا زائدا عليه لصح انفصال أحدهما عن الآخر، إذ لا علاقة بينهما من وجه معقول والمعلوم خلافه. . يبين ما ذكرناه أنه لا فرق بين قولهم: أدركت ببصري هذا الشخص، وبين قولهم رأيت ببصري هذا الشخص، أو أبصرت ببصري هذا الشخص، حتى لو قال أدركت ببصري وما رأيت، أو رأيت وما أدركت لعد مناقضا. .

فإن قيل: ولم قلتم إن هذه الآية وردت مورد التمدح؟

قلنا: لأن سياق الآية يقتضي ذلك، وكذلك ما قبلها وما بعدها، لأن جميعه في مدائح الله تعالى، وغير جائز من الحكيم أن يأتي بجملة مشتملة على المدح ثم يخلطها بما ليس بمدح البتة، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحدنا:

فلان ورع تقي نقي الجيب مرضي الطريقة أسود يأكل الخبز يصلي بالليل ويصوم بالنهار، لما لم يكن لكونه أسود يأكل الخبز تأثير في المدح.

يبين ذلك: أنه تعالى لما بين تميزه عما عداه من الأجناس بنفي الصاحبة والولد، بين أن تميزه عن غيره من الذوات بأن لا يرى ويرى. وبعد فإن الأمة اتفقوا على أن الآية واردة مورد التمدح فلا كلام في ذلك.

فإن قيل: وأي مدح في أنه لا يرى القديم تعالى وقد شاركه فيه المعدومات وكثير من الموجودات؟

قلنا: لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى، وإنما يقع التمدح بكونه رائيا ولا يرى، ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحا ثم بانضمام شيء آخر إليه يعتبر مدحا وهكذا فلا مدح في نفي الصاحبة والولد مجردا، ثم إذا انضم إليه كونه حيا لا آفة به صار مدحا، وهكذا فلا مدح في أنه لا أول له، فإن المعدومات تشاركه في ذلك، ثم يصير مدحا بانضمام شيء آخر إليه، وهو كونه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا موجودا، كذلك في مسألتنا.

فإن قيل: إن ما ليس بمدح إذا انضم إليه ما هو مدح كيف يصير مدحا لا مانع من ذلك فمعلوم أن قوله عز وجل لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] بمجرده ليس بمدح ثم صار مدحا لانضمامه إلى قوله اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: ٢٥٥].


(١) ((تفسير الرازي)) (١٣/ ١٢٧)، ((شرح الأصول الخمسة)) (٢٣٥)، ((المغني)) (٤/ ١٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>