للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم أخذ في إبطال هذه الحجة فقال: ويبطل هذا القول أن الرائي منا متى حصل بالصفة التي لكونه عليها يرى المرئي وحصل المرئي بالصفة التي لكونه عليها يراه الرائي، وارتفعت الموانع المعقولة فيجب أن يراه ومتى فقد بعض ما ذكرناه استحال أن يراه، فليس له إلا حالان:

أحدهما: يصح معها أن يرى ويجب أن يرى.

والثانية: يستحيل معها أن يرى. وهذا كما نعلمه من حال الجوهر أنه وإن وجد يجب كونه متحيزا ومحتملا للأعراض وإن عدم استحال ذلك عليه، وليس له حال ثالثة تتوسط هذين، ويفارق ذلك صحة كون الواحد منا عالما لأنه قد يكون على حال معها يصح أن يعلم ويريد وإن لم يجب ذلك فيه وكذلك سائر الصفات الراجعة إلى الجملة أو الجمل إذا استحقت العلة (١).وقال أيضا في إبطالها: (إن الإدراك ليس بمعنى وليس بأمر زائد على الرؤية لأن الإدراك لو كان معنى لوجب في الواحد منا مع صحة الحاسة وارتفاع الموانع ووجود المدرك أن لا يرى ما بين يديه في بعض الحالات، بأن لا يخلق الله له الإدراك، وهذا يقتضي أن يكون بين أيدينا أجسام عظيمة كالفيلة والبعران ونحوها ونحن لا نراها لفقد الإدراك وهذا يرفع الثقة بالمشاهدات ويلحق البصراء بالعميان وذلك محال وما أدى إليه وجب أن يكون محالا (٢) وقد سبق.

وقال ومما يبطله أن الرائي يرى الجوهر واللون فننظر الوجه الذي لكونهما عليه تصح رؤيتهما وقد علمنا أنا نفصل بالرؤية بين الألوان المختلفة وبين أحوال الأجسام في العظم والصغر فيجب أن تكون الرؤية متعلقة بهما على ما يختصان به في جنسهما فلو كنا ندركهما لوجودهما لم نفصل بين المختلف من الألوان، ولا صح التوصل بالإدراك إلى تماثل المتماثل واختلاف المختلف منها، وفي ذلك دلالة على أنا ندركها لما هي عليه في نفسها، ولذلك يحصل لنا عند الإدراك العلم بما عليه الجوهر من التحيز والألوان من الهيئة المخصوصة ويكون العلم بذلك أجلى من العلم بسائر أحواله، وإنما العلم بوجود الجواهر والألوان عند العلم بما هما عليه من الصفة التي يتناولها الإدراك، لأن الإدراك يتعلق بهما لوجودهما، لأنه لو تعلق بهما لاختصاصهما بالوجود لوجب أن نرى كل ما شاركهما في الوجود، ألا ترى أنا لما رأينا الجوهر من حيث كان جوهرا، والسواد من حيث كان سوادا رأينا كل ما شاركهما في هذه الصفة؟ لأن من حق الإدراك أن يشيع في كل ما يختص بالصفة التي يتناولها الإدراك، فكان يجب لو رأينا الجوهر من حيث كان موجودا أن نرى كل موجود فكان يجب أن ندرك الأشياء كلها بالحاسة الواحدة لاشتراكهما أجمع في الوجود. وقد بينا من قبل أن القول بأنها تدرك، من حيث كانت موجودة فقط لا يصح، لأن ما أوجب إدراكها من حيث كانت موجودة يوجب إدراكها من حيث كانت متميزة، لأنه ليس للوجود في هذا الباب من الاختصاص ما ليس للتحيز، وللتحيز من الاختصاص ما ليس للوجود، وبينا أن القول بأنها تدرك من حيث كانت موجودة لا يصح (٣).

ونكتفي بهذا القدر من معارضة المعتزلة للدليل، وإلا فقد قالوا أكثر من هذا مع أن هذا القول ليس هو الوحيد لإبطال الدليل ولو كان لسهل الرد عليه ولكن الدليل في حد ذاته لا يقوى من وجوه غير التي ذكرها المعتزلة ولم تسلم دلالته – مع ثبوتها – فلا فائدة في مناقشة معارضتهم والرد عليها.


(١) ((المغني في باب التوحيد والعدل)) للقاضي عبد الجبار (٤/ ٣٩).
(٢) ((شرح الأصول الخمسة)) (٢٥٥).
(٣) ((المغني في باب التوحيد والعدل)) للقاضي عبد الجبار (٤/ ٨٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>