وهذا قول جمهور المتأخرين من الأشاعرة إذ إن مذهبهم إثبات الرؤية لله تعالى لورود النصوص القطعية بذلك، ولكنهم مع هذا سلموا للمعتزلة قولهم بنفي الجهة عن الله تعالى ويلزم من نفي الجهة نفي الرؤية، فلم يستطيعوا التظاهر بنفي ما ثبت بالنصوص لانتسابهم إلى أهل السنة فأثبتوا الرؤية ونفوا لازمها وهي الجهة، فأخذ المعتزلة يشنعون عليهم هذا التناقض المخالف للعقول ولما رأوا ذلك سلكوا هذا المسلك الذي قالوا عنه إنه الكشف البالغ الإيمان أن الرؤية ليست بصرية وإنما هي زيادة انكشاف الرب تعالى لهم وتمام معرفتهم به حتى كأنهم يرونه بأعينهم وعلى هذا لا يكون خلافهم مع المعتزلة أكثر من الخلاف اللفظي.
٤ - من أدلة العقل على الجواز:
استدل السلف على جواز الرؤية عقلا بطريقة غير طريقة الوجود المجرد حيث لزم عليها لوازم فاسدة فلا تصلح مصححا للرؤية. لذلك جعلوا المصحح للرؤية أمورا وجودية لا أن كل موجود تتضح رؤيته، قال ابن تيمية في تقرير الدليل: (فمعلوم أن الرؤية تعلق بالموجود دون المعدوم، ومعلوم أنها أمر وجودي محض لا يسيطر فيها أمر عدمي كالذوق الذي يتضمن استحالة المأكول والمشروب ودخوله في مواضع من الآكل والشارب وذلك لا يكون إلا عن استحالة وخلق، وإذا كانت أمرا وجوديا محضا، ولا تتعلق إلا بالموجود فالمصحح لها الفارق بين ما يمكن رؤيته وما لا يمكن رؤيته: إما أن يكون وجودا محضا، أو متضمنا أمرا عدميا. والثاني باطل لأن العدم لا يكون له تأثير في الوجود المحض فلا يكون سببا له، ولا يكون أيضا شرطا أو جزءا من السبب إلا أن يتضمن وجودا فيكون ذلك الوجود هو المؤثر في الوجود ويكون ذلك العدم دليلا عليه ومستلزما له ونحو ذلك، وهذا من الأمور البينة عند التأمل. ومن قال من العلماء: إن العدم يكون علة للأمر الثبوتي أو جزء علة، أو شرط علة، فإنما يقولون ذلك في قياس الدلالة، ونحوه مما يستدل فيه بالوصف على الحكم، لا يقول أحد إن نفس العدم هو المقتضي للوجود. ولا يقول: إن الوصف المركب، من وجود وعدم هما جميعا مقتضيان للوجود المحض. وشروط العلة هي من جملة أجزاء العلة التامة. وإذا كان المقتضى لجواز الرؤية، والمصحح للرؤية، والفارق بينما تجوز رؤيته وبينما لا تجوز: إما أن يكون وجودا محضا فلا حاجة بنا إلى تعيينه، سواء قيل هو مطلق الوجود أو القيام بالنفس، أو بالعين بشرط المقابلة والمحاذاة، أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع، لكن المقصود أنه أمور وجودية، وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود، وكماله من كل موجود، إذ وجوده هو الوجود الواجب، ووجود كل ما سواه هو من وجوده، وله الكمال التام في جميع الأمور الوجودية المحضة فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود، وحينئذ فيكون الله – وله المثل الأعلى – أحق بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده، ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لا نستطيع التحديق في شعاع الشمس، بل كما لا تطيق الخفاش أن تراها، لا لامتناع رؤيتها، بل لضعف بصره وعجزه. كما قد لا يستطاع سماع الأصوات العظيمة جدا، لا لكونها لا تسمع، بل لضعف الس