للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مناقشة الشبهة: أولاً: هذه الشبهة تنبني على أن العباد لا فعل لهم، بمعنى أنهم مجبورون على ما يكون منهم من تصرفات، وهذا باطل لا نقول به. يقول ابن تيمية: أفعال العباد خلقاً لله وكسباً للعباد بمنزلة الأسباب للمسببات، فالعباد لهم قدرة ومشيئة وإرادة، ولكنها تحت قدرة الله ومشيئته. قال تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: ٢٩]. وكذلك نطق القرآن بإثبات الفعل للعباد. قال تعالى: جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: ٢٤]. وأمثال هذه الآية كثير مما يدل دلالتها .. إلى أن قال: ولا يلزم قولنا هذا شركاً وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركاً. وقد قال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ... الآية [التوبة: ١٤] فبين سبحانه وتعالى أنه المعذب، وأن أيدينا أسباباً وآلات ... وفي وصول العذاب إليهم (١) ... كما لا يلزم قولنا هذا أن يكون العبد مجبوراً على أعماله، فإن الجبر الذي أنكره سلف الأمة ... هو أن يكون الفعل صادراً عن الشيء من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار مثل: هبوب حركة الأشجار ... ولذلك انقسمت الأفعال إلى اختياري واضطراري، واختص المختار منها بإثبات الأمر والنهي ... (٢)؛ وعلى هذا فإنه يبطل قولهم: إن العباد لا فعل لهم. وإذا بطل الأصل، بطل الفرع. ثانياً: أنا لا نقول: إن الله تعالى آمر لأحد من خلقه بخلق شيء من الأفعال، ولا ناه له عن ذلك ... لأن الخلق مستحيل من العبد، وإنما نقول: إن الله تعالى إنما أمر باكتساب ما خلقه ونهى عن ذلك (٣). وإذا كان الأمر والنهي متوجهاً إلى جهة الاكتساب، فلا منافاة بين الخلق والأمر. ثالثا: أنا لا نقول: إن المدح والثواب ولا الذم والعقاب يحصل بفعل الفاعل منا حتى يوجب ذلك كونه خلقاً له واختراعاً، بل نقول: إن ذلك يحصل بحكم الله تعالى، ويجب ويستحق بحكمه ... ألا ترى بالإجماع منا ومنكم ومن جميع المسلمين، أن الدابة تجب على العاقلة بقتل غيرها خطأ، وإن لم تفعل العاقلة شيئاً يستحق به إيجاب ذلك عليها، وأن ذلك الذي فعلته ليس خلقاً لها، بل هو خلق لغيرها، وهو الله تعالى عند المسلمين، وخلق للقاتل على زعمكم، فصح أن الوجوب حصل بإيجاب الله تعالى وحكمه لا بخلق العاقلة وفعلها، وكذلك جميع الأحكام في الدنيا والآخرة، إنما تجب بإيجاب الله تعالى وإرادته لا بكونها خلقاً للفاعل. ومثل ذلك: الأكل في الصيام إذا كان العبد ناسياً، يعتبر فعلاً للعبد كما هو فعل له عند تعمده، لكن الله تعالى حكم بأن أحدهما مفطر ومبطل للصوم، ويذم ويعاقب عليه، والآخر بالضد من ذلك، وإن كان الجميع فعلا للعبد؛ مما يدل أن ذلك إنما يكون بحكم الله تعالى، لا بكونه خلقاً للفاعل (٤).فإذا كان الثواب والعقاب يحصل بحكم الله تعالى، لم يلزم منافاة بين خلق الله تعالى لأفعال العباد وإثابتهم أو عقابهم عليها؛ إضافة إلى هذا: فإن الإثابة والعقاب على الاكتساب لا على الخلق (٥).

وإذا كان لا منافاة بين خلق الله لأفعال العباد وأمرهم ونهيهم وإثابتهم وعقابهم عليها؛ بطلت هذه الشبهة. والله أعلم.

وأما قول ثمامة: إن أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة أوجه: إما كلها من الله ولا فعل لهم، ولم يستحقوا ثواباً ولا عقاباً أو منهم فقط كان لهم الثواب والعقاب، أو منهم ومن الله، وجب المدح والذم لهم جميعاً.


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٣٨٩، ٣٩٠)، بتصرف.
(٢) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (٨/ ٣٩٣، ٣٩٤)، بتصرف.
(٣) انظر ((التمهيد)) (ص٣٠٧).
(٤) ((الإنصاف)) (ص١٥٥)، بتصرف.
(٥) انظر ((التمهيد)) (ص٣٠٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>